عندما يتصاعد العنف بالقسوة نفسها (وإن ليس بعدد القتلى نفسه!) في أكثر من منطقة في أفريقيا - وغيرها - ويتم ذلك بينما نقول إنها بيئات مختلفة في جنوب أفريقيا عنها في الصومال أو نيجيريا، عنها في ليبيا أو مصر. فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لمنهجية التفسير، أو خلال البحث عن الأسباب المتقاربة وراء هذا التطرف في مظاهر العنف، ورفض الآخر، أو ما يسمى كراهية أو رهاب الآخر؛ الأجنبي... Xenophobia .. إلخ؟ ثمة ارتباك أمام تعدد التفسيرات لما يبدو متنوعاً، بينما يشير تصاعد الأزمة إلى ضرورة معرفة المشترك. ففي الشمال الأفريقي، مثلاً، يسود التفسير بالعامل الثقافي أو الحضاري (القيمي، التعصب الديني، سوء التفسير، الإقصاء)، ومن خلال ذلك يذكر مهمشاً الاعتبار الديمقراطي، وتوزيع الثروات. ومن ثم لا تنجح أي معالجة حتى الآن في الحد من: العنف المروع إلى حد الذبح على الهوية! وفي غرب أفريقيا، خاصة في نيجيريا، بدت ثروات البترول ومعادن الصحراء الكبرى كافية لشعوبها، ولكن من دون جدوى أمام نفوذ العسكريين تارة، والتبعية للخارج تارة أخرى، ومن ثم دخلت «بوكو حرام» على خط التفسير الديني المتطرف بدوره في رفض الآخر (القبلي أو المسيحي أو الغربي)، وجرى العنف مروعاً لحد القتل أيضاً على الهوية! في الجنوب الأفريقي، بدت لنا الصورة أكثر إرباكاً، وكأنها تبدو متناقضة مع الآخرين، فالرأسمالية «البيضاء» الموروثة عن النظام السابق رتبت أمورها مع البرجوازية السوداء، وقفزت بالاقتصاد الحر، في عقلانية تحديثية ملحوظة لحد شراكتها مع البرازيل والهند والصين! ومن ناحية أخرى جاء دستور الانتقال من «الأبارتيد» للحكم الأفريقي، محكماً بدوره، في صياغة الحقوق (الأقاليم والمرأة، والوعود العدلية النظرية لا الإجرائية في الزراعة وفرص العمل). وحتى من الناحية الثقافية، فإن حالة «قيادة مانديلا للتحول» جعلت «حالة التحرر»، حالة ثقافية أو قيمية بدورها، بل إنها كانت «وعداً» عميقاً بالمشاركة، وبدا «التسامح» و«الشفافية» شعاراً للمرحلة الجديدة، التي تحل فيها المواطنة محل العرق، ومع ذلك تسارع التدهور في أوضاع قطاعات جماهيرية كبيرة، ليتحول إلى كراهية الآخر (الأفريقي بالذات)، إزاء سقوط وعد المشاركة بما يصل مؤخراً (ومن قبل ذلك أكثر من مرة) إلى حد القتل على الهوية المهاجرة! وما دمنا أمام حالة جنوب أفريقيا هذه - التي يتسارع فيها العنف- فليس صحيحاً منذ البداية أن «العنصر الثقافي» - الكراهية أو التسامح مع الآخر - أو حتى أزمة الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية يصلح تفسيراً في جنوب أفريقيا إلا في أقل الحدود؛ لأن الأرقام الأخيرة تشير إلى عدم تجاوز عمال الهجرة أكثر من مليونين، (وإن قيل إنه يصل إلى 4 ملايين)، وهذا الرقم بين 52 مليون نسمة لا يعني الكثير. لكن ربط ذلك باستمرار الفوارق العنصرية القديمة يجعل العامل «الثقافي» موضع جدل إزاء عدم قدرة النظام القائم على معالجة الأوضاع العنصرية السابقة، ونقل الصراع مع الظالم الحقيقي إلى صراع بين أطراف المظلومين، (أفريقي أسود/ أفريقي مهاجر)! ومن هنا كان اتهام الرأي العام الشعبي الأفريقي «للنظام القائم» بالمبالغة في التسامح المنحاز مع الوضع الاستعماري العنصري القديم، وممارسة نفس سياسة السوق والاستغلال، مما جعل الدفة لدى الجماهير تتجه للانكفاء على نفسها بمظاهر التطرف في الجريمة تارة، بل وفي الإضرابات المستمرة، ثم في رفض الأفارقة «الآخرين» كأجانب تارة أخرى! مع أنهم من بلاد قريبة عرقياً ونفسياً مثل ليسوتو، وزيمبابوي، ومالاوي، وموزمبيق، ويمتد البعد الحضاري لليسوتو وإلى عمق جنوب أفريقيا. وقد أدى تجاهل الحكم لذلك إلى إثارة نعرات مضادة في القارة ضد مواطني جنوب أفريقيا نفسها، بإشارات إلى مساعدة أفارقة القارة لهم في التحرر، أو سابق إيواء أبناء جنوب أفريقيا لديهم. وقد عمق التحليل باستمرار آثار السياسة الاستعمارية العنصرية عند النظام الحالي ما نشر من أرقام الإبعاد المستمر Deportation للأجانب في أجواء اتهامهم باحتلال فرص العمل الأفريقية إلى حد تطور الرقم من 23 ألف بعد عام 1991، إلى 210 ألفاً عام 1996، إلى أضعاف ذلك عام 2000، ناهيك عما سبب الاضطرابات الواسعة عام 2008. والدراسات كلها مملوءة بإحصاءات ليس هنا مجالها. قد تتعدد الأسباب أيضاً وراء ظاهرة العنف ضد الأجانب في جنوب أفريقيا إزاء وفود أبناء زيمبابوي مثلا بكثافة مع استمرار أزمة حكم «موجابى»، ليصلوا إلى أكبر من ربع مليون نسمة مؤخراً، وكذا تدفع ظروف صراعات الصومال والكونغو، وسياسة الإفقار في نيجيريا إلى بروز أرقام أبناء هذه الدول في جنوب أفريقيا، وذلك في وقت تحد فيه أوروبا من الهجرة إليها، بل وتقل فيه فرص العمل بسبب السياسات الاقتصادية المحلية في جنوب أفريقيا. ولأن قائمة الجاليات المضارة تضم أبناء حوالي عشر دول أفريقية، فإننا نشهد فورة مضادة لجنوب أفريقيا على مستوى القارة، بمطالب شعبية في عدد من دولها، في مالاوي، وزيمبابوي، وموزمبيق، ونيجيريا، أومظاهرات مطالبة بمقاطعة التجارة والبضائع، بل والأغاني والموسيقى! ومناشدة الاتحاد الأفريقي التدخل. ولا تحاول النظم في هذه البلدان أن تشير لجذور الموضوع في واقعها هي وسياساتها نحو أبنائها، وإنما تلجأ لمجرد البعد الثقافي للكراهية والإرهاب! ورغم كل التفسيرات الثقافية والرأسمالية والعرقية للبحث عن أسباب يبدو معظمها في تقديري مهرباً من الحقيقة، ويظل السبب الحقيقي الذي لم نبحث عنه لنختبره بعمق وصدق هو ظروف تحقق «العدل الاجتماعي» لهذه الجماهير التي يعجزها عدم المشاركة الشعبية الفعلية عن طرح «آليات حقيقية للعدل»، بدلاً من سياسة الإقصاء المتبادل، والذبح على الهوية. مدير مركز الدراسات العربية والأفريقية - القاهرة