مثل سلفه، «ليانيس فاروفاكيس» الذي أثار سخط الألمان، يستنكف «إقليدس تساكالوتوس» عن ارتداء ربطة العنق، دلالةً على توجه اشتراكي يؤثر البساطة والتقشف وينفر من المظاهر الاستهلاكية الباذخة لنظام السوق لرأسمالي. ومع ذلك فإن تعيين إقليدس وزيراً لمالية اليونان أثار ارتياحاً ملحوظاً لدى الدائنين وفي أروقة الترويكا المعنية بملف أزمة الديون اليونانية. وإقليدس تساكالوتوس سياسي وخبير اقتصادي يوناني، كان مشرّعاً ونائب وزير، وقد مثّل بلاده في الجولات الأخيرة من المفاوضات حول ديونها العامة، قبل تعيينه، الثلاثاء الماضي، وزيراً للمالية في الحكومة الاشتراكية القائمة. ولد إقليدس تساكالوتوس عام 1960 في روتردام بهولندا لوالده الذي كان يعمل مهندساً مدنياً في مؤسسة لبناء السفن هناك، لكنه غادر هولندا إلى المملكة المتحدة عندما كان إقليدس في الخامسة من عمره، وهناك درس «إقليدس اليوناني» معظم تعليمه الثانوي (1973-1978) في مدرسة «القديس بول» في لندن، ثم درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد في «كلية الملكة» بأكسفورد، وبعد ذلك حصل على درجة الماجستير من معهد دراسات التنمية في جامعة «ساسكس»، قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة أكسفورد عام 1989. وابتداءً من ذلك العام وحتى يونيو 1993 عمل محاضراً في الاقتصاد بجامعة «كينت» (بريطانيا)، ثم جامعة أثينا بين عامي 1994 و2010، قبل أن يصبح أستاذاً للاقتصاد بـ«الجامعة الوطنية» في أثينا. وخلال هذه السنوات أنجز إقليدس عدداً من الكتب والبحوث حول السياسات الاقتصادية اليونانية والدولية، منها «بوتقة المقاومة: اليونان ومنطقة اليورو والأزمة الاقتصادية العالمية»، ومنها كتاب كبير حول «أوروبا في التاريخ اليوناني الحديث». كما نشر عدة كتب بالتعاون مع أكاديميين وكتاب آخرين منهم زوجته «هيدز جيبسون»، وهي اقتصادية اسكتلندية لديها العديد من الكتب والبحوث وتعمل مديرة مستشارة لـ«بنك اليونان». عندما كان إقليدس طالباً في جامعة أكسفورد انضم للجناح الطلابي للحزب الشيوعي اليوناني. وفي مطلع التسعينيات انضم إلى حزب «سيناسبيسموس»، الذي وجد خلال الفترة بين عامي 1991 و2013، وأصبح في عام 2004 عضواً في تحالف اليسار الراديكالي (سيريزا)، والذي تحول فيما بعد إلى حزب سياسي، أصبح إقليدس عضو اللجنة المركزية فيه، و«العقل المدبر» لسياسته الاقتصادية. وحصل إقليدس على عضوية البرلمان للمرة الأولى في الانتخابات التشريعية في مايو 2012 حين انتُخِب على قوائم «سيريزا» ممثلا للدائرة «ب» في أثينا؛ وأعيد انتخابه للمقعد ذاته في الانتخابات المبكرة في 17 يونيو 2012، ثم في الانتخابات الأخيرة في 25 يناير 2015. وكان إقليدس عضواً فعالا في الفريق المكلف بصياغة البرنامج الاقتصادي لـ«سيريزا» منذ عام 2012، حيث أصبح مسؤول المالية في حكومة الظل اليونانية بقيادة «سيريزا»، وأصبح المتحدث الاقتصادي باسم الكتلة البرلمانية لـ«سيريزا» منذ عام 2012، ثم نائب وزير الخارجية للشؤون الاقتصادية في فبراير 2015، وفي أبريل الماضي تم تعيينه منسقاً للمفاوضات مع دائني اليونان، وكلفه رئيس الوزراء الكسيس تسيبراس، في يونيو 2015، بالإنابة عن وزير المالية فاروفاكيس خلال عدة لقاءات للتفاوض مع مجموعة اليورو. وبعد انتصار «لا» في الاستفتاء الشعبي المنظم يوم الاثنين الماضي حول المفاوضات بين اليونان والترويكا المعنية بأزمة الدين العام اليوناني، فيما يمثل تأييداً واسعاً لحكومة تسيبراس الرافضة للتقشف، عُين إقليدس وزيراً للمالية بدلا من فاروفاكيس الذي استقال من المنصب. وفي خطاب تنصيبه قال إنه لن يقبل بأي حل لن يكون بمقدور اليونان تنفيذه، وأضاف: «سنحاول مواصلة النقاش» مع الدائنين، و«أعتقد أن شيئاً ما يمكن أن يتغير في أوروبا». ويعتقد تساكالوتوس، «الماركسي المقتنع» كما يوصف، أن الصعوبات التي تواجه اليونان لا تعود فقط إلى الأزمة الاقتصادية، ولكن أيضاً إلى أزمة الديمقراطية ذاتها. وإن كانت آراؤه حول مصير اليونان في منطقة اليورو تبقى محل تكهن وتخمين، فإن دائني اليونان يعرفونه جيداً، إذ كان حتى لحظة تعيينه على رأس وزارة المال منسقاً لفريق التفاوض اليوناني، ويتمتع بسمعة «طيبة» لدى الدائن الأكبر لليونان (وهو ألمانيا) باعتباره أكثر «مرونة» من فاروفاكيس الذي طالما اشتكى ممثلو الترويكا (المفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي) من مناكفاته الأيديولوجية وتنظيراته الطوباوية. وكما كان لعالم الرياضيات اليوناني القديم إقليدس أكبر الأثر في تاريخ الرياضيات، حيث وضع نظاماً صارماً للبراهين الرياضية، وأنشأ مصنفات في حقول عديدة؛ كالمنظور، والقطع المخروطي، والهندسة الكروية، ونظرية الأعداد.. حتى لُقِّب «أبو الهندسة».. يأمل اليونانيون أن يكون لوزير ماليتهم المعين أثر مماثل في إخراج البلاد من أزمة دَينها العام البالغ نحو 300 مليار أورو، الأزمة التي توشك أن تستنفد كل الحلول الممكنة وآخرها استفتاء الأسبوع الماضي، والذي كان من نتائجه تعيين إقليدس نفسه «وزيراً للأزمة»! ربما تجيب تطورات الأيام القليلة القادمة على ما تأمله كل الأطراف من إقليدس اليوناني فيما يخص منهجه لهندسة الأزمة اليونانية التي بلغت مستوى من التعقد تحتاج معه لالتماعات رياضية خلاقة وغير عادية من ذلك النوع الذي أفضى مع العالم إقليدس إلى حلول لمشكلات رياضية كانت عويصة للغاية حتى حينه! محمد ولد المنى