سريبرينيتسيا، البوسنة والهرسك - في الحادي عشر من يوليو عام 1995، تخلت مفرزة هولندية من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة عن سيطرتها عن مدينة سريبرينيتسيا، تاركةً السكان المدنيين الذين تضخمت أعدادهم، بسبب نزوح ألوف اللاجئين البوسنيين المسلمين إليها، تحت رحمة القوات الصربية التي تحاصرها. كان الجنود الصرب وضباط الشرطة شبه العسكريين، قد قاموا بشكل منهجي بإعدام 8000 مسلم من الرجال والأطفال الذكور، وإلقاء جثثهم في مقابر جماعية، سويّت بـ«البولدوزرات» لإخفاء الأدلة. والصور البشعة التي يتذكرها معظم الناس اليوم للضحايا، ليست سوى جزء من تلك المذبحة التي تعتبر أبشع جريمة حرب ارتكبت على الأراضي الأوروبية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي جريمة تتبدى آثارها المروعة في عشرات المقابر الجماعية التي تتناثر في سائر أرجاء المنطقة. الجزء الأقل شهرة من تلك المذبحة هو ذلك المتعلق بتاريخ ما يعرف بـ«الطابور»، وهو عبارة عن تجمع مكون من 15 ألف مسلم بوسني حاولوا الهروب من الإعدامات، عن طريق السير لمسافة تزيد عن 60 ميلاً في اتجاه الشمال الغربي، مجتازين غابات كثيفة لمحاولة الوصول إلى ملاذ «توزلا» الآمن. وعندما وصل الناجون من بين هؤلاء اللاجئين المعذبين إلى تلك المدينة كانوا في حالة يرثى لها من الهزال والصدمة. لإحياء ذكرى هؤلاء الذين لقوا حتفهم في تلك المذبحة، ولتسليط الضوء على الافتقار للعدالة في مسألة معاقبة وتنفيذ الأحكام على هؤلاء الذين ارتكبوا جرائم حرب، قام المئات من الناجين من تلك المذبحة ومؤيديهم بمسيرة في الاتجاه العكسي - من توزلا لسريبرينيتسا - على الطريق نفسه الذي سار عليه «الطابور» الهارب. وقد قمت برفقة المصورة «لورا بوشناك» بإجراء مقابلات مع بعض الناجين وبعض أقارب الضحايا. «ندزاد ادفيتش» كان يبلغ من العمر 17 عاماً عندما انضم مع أبيه وعمه إلى «الطابور»، الذي انطلق عبر تضاريس وعره للهروب من حقول القتل في سريبرينيتسا، وتجنب حقول الألغام المزروعة في أماكن كثيرة. ووسط الاضطراب والفوضى، سرعان ما فقد الشاب والده. يقول هو عن ذلك: «بكيت، وحاولت النداء عليه، ولكن الجميع كانوا مشغولين بإنقاذ أنفسهم». بعد يومين من السير في الغابة، تم أسر «أدفيتش» وعمه. وأخذهما الصرب لمبنى مدرسة في قرية تبعد عن سريبرينيتسا بخمسة وثلاثين ميلاً. يقول عن ذلك: «كانوا ينادون على خمسة منا في المرة الواحدة»، ويقول إنهم قد سمعوا طلقات رصاص، ورأوا أجسادا تتهاوى للأرض. ذهب عمه أولا على أمل أن يتركوه هو- ادفيتش- حيا. وكانت تلك هي آخر مرة يرى فيها الشاب عمه الذي تم اكتشاف رفاته منذ عامين في مقبرة جماعية ثانية. بعد ذلك جاء جندي وقيد يدي «ادفيتش» وأمره بأن يخلع حذاءه، وقميصه، ثم اقتيدت المجموعة في شاحنة إلى حقل قتل آخر، حيث أمرهم الجنود بالاصطفاف أمام صفوف من الجثث. وبدأ إطلاق النار عليهم، وسقط «أدفيتش» بعد أن أصيب بالرصاص في ذراعه والنصف الأعلى من جسمه. يقول: «دعوت الله أن أموت؛ لأن الألم كان لا يحتمل» ولكنه ظل ساكناً، مع ذلك، خوفا من أن يجهز الصرب عليه إذا ما اكتشفوا أنه مازال حياً. عندما غادر الجنود رأي «أدفيتش» رجلاً آخر يتحرك وسط الجثث، فتقلب بين القتلى للوصول إليه، واستخدم أسنانه كي يفك وثاقه. في بداية الأمر، اختفيا في أحد الأحراش، ورأيا من مخبئهما القوات شبه العسكرية الصربية تقتاد مجموعة أخرى من المسلمين للذبح. وبعد ذلك استأنفا رحلة هربهما، وبعد أربعة أيام تقيحت جروح ادفيتش ولم يعد قادراً حتى على الزحف، فقام رفيقه بحمله إلى أن وصلا في نهاية المطاف إلى توزلا. حتى يومنا هذا لا يزال هناك الكثيرون في البوسنة من ضباط الشرطة وموظفي البلدية والمدرسين، ممن لعبوا دوراً في المذابح الجماعية التي وقعت عام 1995، بل مازالت المدارس ذات الأغلبية الصربية تعرض صوراً لمجرمي الحرب المدانين مثل السياسي البوسني- الصربي «رادوفان كاراديتش»، وقائد جيش صربيا البوسني الجنرال «راتكو ملاديتش» اللذين يحاكمان في محكمة الجنايات الدولية في يوغسلافيا السابقة في لاهاي، بتهمة ارتكاب جرائم حرب مرتبطة بمذبحة سريبرينيتسا. فقد «أدفيتش» والده وعمه وستة من أبناء أعمامه و20 من أقاربه في الحرب. وعلى الرغم من الأهوال التي حدثت في سريبرينيتسا، فإنه عاد إليها عام 2007 ليعيش فيه، لأنه مسقط رأسه. وهو الآن أب لطفلتين تبلغان من العمر 3 و5 سنوات. في نهاية حديثه معي تساءل «أدفيتش»: «ما هو نوع المستقبل الذي ننتظره هنا عندما تتعلم بنتاي على أيدي هؤلاء الذين شاركوا في تلك المذبحة؟». سيما جيلاني باحثة بمؤسسة فولبرايت وزميلة في مشروع ترومان للأمن القومي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»