إن ذكرت السلفية تنصرف أذهان الأغلبية إلى الجمعيات والتجمعات والأحزاب والمسارات والدعوات التي صار لها قوام وتحمل التصور السلفي، أو المتسلّف، وهي تمثل الشكل «الصلب» من السلفية، أما السائل منها، وهو الأعرض والأكثر، فلا ينتبه إليه إلا من يعرفه جيداً، أو يفهم الفروق بين الحالتين. وتعني السلفية السائلة وجود جمهور عريض يروق له خطاب دعاة السلفية، الذين يتابع دروسهم، سواء بشكل مباشر من خلال حلقات الدرس والوعظ في المساجد، حيث يقيم هؤلاء علاقة «وجه لوجه» مع متابعيهم، أو بشكل غير مباشر عبر مختلف وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية والإلكترونية. أما السلفية الصلبة، فتشمل الجماعات والجمعيات والتنظيمات التي تتبنى النهج السلفي، وتكرس جهدها في الدعوة والعمل الخيري أو النفع العام، ومنها على سبيل المثال جماعة «التبليغ والدعوة»، وأنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية. وأبرز جماعات هذا الصنف من السلفية هي جماعة «التبليغ والدعوة» وهي جماعة أنشأها الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي في الهند، وانتشرت منها إلى ربوع العالم الإسلامي كافة، وساعدها في هذا ابتعادها عن السياسة وتركيزها على مسائل العقائد والعبادات، عبر جذب الناس إلى الالتزام بإقامة الصلاة، وتحصيل العلم، ومواصلة الذكر، وإكرام المسلمين، والإخلاص للدين. وتقوم هذه الجماعة بأمرين أساسيين: الأول، هو تبليغ من لم تبلغه الدعوة الإسلامية، وهدايته إلى الإسلام، والثاني، هو دعوة العاصين من المسلمين إلى الصلاة أولاً بوصفها عماد الدين، ثم الخروج للدعوة في سبيل الله أياماً. وتعتقد هذه الجماعة أن واجبها هو «النهي عن المنكر» كدعوة فردية بالحسنى وليس بلاغاً جماعياً حتى لا تصطدم بالسلطة أو المجتمع، وتبتعد عن الخوض في الخلافات المذهبية اتقاء الجدال والانقسام والعداوة، كما تبتعد عن الخوض في أمور السياسة تحت مبدأ «السياسة هي ترك السياسة». وللجماعة طريقة مختلفة في الدعوة، لم تدونها في كتب، ولكن أفرادها تواصوا بها وتوارثوها، وتقوم على التجول في البلاد باسم «الخروج في سبيل الله»، فإذا خرجتْ مجموعة منهم عيَّنت أحدهم أميراً عليها وأطاعته، ويأخذ كل واحد منهم فراشاً بسيطاً وما يكفيه من الزاد والقليل من الماء، فإن وصلوا إلى البلدة التي يقصدونها، جابوا البيوت والأسواق والحوانيت ذاكرين الله، وداعين الناس إلى سماع وعظهم بالمسجد الذي يقيمون فيه. وفي مصر نشأت «الجمعية الشرعية» وقد تأسست عام 1912، وحددت أهدافها في نشر التعاليم الدينية الصحيحة وإنقاذ المسلمين من فساد المعتقدات، وخسيس البدع والخرافات، وفتح مكاتب لتحفيظ القرآن الكريم، ومدارس لتعليم أبناء المسلمين أحكام الدين وآدابه، وإنشاء المساجد، وطبع الكتب التي تخدم الدين، وإعانة المنكوبين والبائسين، وإيجاد مستشفى لمعالجة الفقراء، والإنفاق على تجهيز الموتى. وأكدت الجمعية أنها «لا تتعرض للشؤون السياسية التي يختص بها ولي الأمر»، وإن كانت قد خرجت عن هذا المبدأ عقب ثورة 25 يناير في مصر، فيما سمحت بتغلغل جماعة «الإخوان» في صفوفها وتسخير إمكانات الجمعية، التي بَنتها عبر عقود من الزمن بأموال المصريين من أصحاب الجود والبذل والخير، في خدمة المشروع السياسي لـ«الإخوان»، وهي مسألة لابد للجمعية من أن تتخلص منها ذاتياً. وهناك أيضاً «جماعة أنصار السنة المحمدية» التي تأسست عام 1927 وحددت أهدافها في دعوة الناس غلى «التوحيد الخالص»، وانطلقت من مصر إلى عدة بلدان عربية وإسلامية، ولكنها بمرور الزمن صارت أحد المخازن الاجتماعية التي ينهل منها أتباع ما يسمى «السلفية الجهادية» التي تحمل السلاح ضد الدولة والمجتمع وتكون تشكيلاتها المغايرة التي تبدأ بأمثال «جماعة التوحيد والجهاد» وتنتهي بـ«داعش».