«بين العجم والروم بلوه ابتلينا»، مثل دارج لدى العراقيين، الذين كانوا يسمون الإيرانيين «العجم» والأتراك «الروم». استعاد المثلَ عالمُ الاجتماع علي الوردي في كتابه «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، وذَكَرَ أن الصراع بين «العجم» و«الروم» كان «بلاءً عظيماً ابتلي به العراق، ولا تزال بقية من هذا البلاء موجودة تفعل فعلها في النفوس سراً وعلانية، حتى يومنا هذا». ويقدم كتاب الوردي، الذي صدر قبل نصف قرن، قراءة فريدة في تكوين العقل العراقي الحائر «الذي انفتح أمامه طريقان متعاكسان، وهو مضطر أن يسير فيهما في آن واحد. فهو يمشي في هذا الطريق حيناً ثم يعود ليمشي في الطريق الآخر حيناً آخر». مراجع الكتاب تمتد عبر الحضارات العالمية، والعربية، والإسلامية، وأثمن ما فيها شهاداته الشخصية، وأحاديث العامة. «فالمتعلم يميل عادة إلى التحذلق، وإلى التظاهر بخلاف ما يضمر، أما العامي فهو في الغالب غير قادر على إخفاء ما في أعماق نفسه من عقد وقيم. فهي تظهر عليه حين يتنازع أو يتشاتم، وحين يتعاون أو يتفاخر». وبالتاريخ يستكشف الوردي ازدواجية الشخصية العراقية، وظاهرة المد والجزر بين البداوة والحضارة، ويتوقع أن لا ينال بحثه في الصراع الطائفي «رضا الكثيرين من أهل العراق، فهم اعتادوا أن ينظروا في هذا الصراع نظرة متحيزة، حيث يعتقد كل فريق منهم أنه وحده صاحب الحق المطلق فيه وأن غيره مبطل بلا مراء». ويعتقد الوردي أن العراقيين بحاجة ماسة إلى بحث الصراع الطائفي، «فالطائفية أصبحت من أعضل الأدواء التي يشكو منها المجتمع العراقي، وربما صَحّ القول إنها اتخذت شكل العقدة المبكوتة في شخصية الفرد.. لابد لنا أن نُخرج العقدة إلى الضوء فندرسها دراسة موضوعية واعية، وبهذا قد نأمل أن نصل بها إلى حلٍ على وجه من الوجوه!». وهذه أيام الوردي في العراق، يعيشها جيل جديد يحل العقدة الطائفية، ليس عن طريق البحوث، والمؤتمرات، والدساتير، بل بوساطة «البراكسيس»، أي التطبيق، أو التجربة، وهي عملية تحدُثُ فيها، أو تُدرَكُ النظرية، والأفكار، والمبادئ، اعتمدتها فلسفات «كانت»، و«كيرغيغارد»، و«ماركس». وولدت «البراكسيس» في الكوفة بالعراق، في مختبر مؤسس علم الكيمياء جابر ابن حيان، الذي عرف قبل ألف ومائتي عام «أن كمال الصنعة العمل والتجربة، فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء أبداً». وفي جحيم التجربة العراقية نضجت بسرعة مذهلة أجيالُ جديدة من العراقيين تظفر اليوم بحياتها وحياة بلدها. فتاة كان عمرها خمس سنوات عند الغزو عام 2003، واليوم في عمر الورد يراها ملايين مشاهدي «اليوتيوب» تخاطب من «ساحة التحرير» بهدوء وثقةٍ حكامَ بلدها: «ربيتونا على الخرافة والوهم، أطفالنا يتعالجون بحباية باراسيتومول، وأنتو تتعالجون بأرقى المستشفيات بأوروبا، حرّمتوا مصافحة المرأة للرجل، وحلّلتوا مصافحتكم للحرامية. حرّمتوا الموسيقى والغناء، وحلّلتوا أصوات الرصاص والقنابل. تحزنون لما تشوفون الناس فرحانه، وتفرحون لما تشوفون الناس حزنانه. الدول ما تنبني بالخرافة. الدول تنبني بالبحوث العلمية، بالمختبرات، والعلم، والتطور، مو بالخرافة والوهم. إنتو منين؟.. إنتو من يا عصر حجري جيتوا، شنو تريدون من هذا البلد؟». و«براكسيس» التاريخ في العراق يتحدث بلهجة الجنوب العذبة التي لوّثها اللصوص. فتى جنوبي يحاسب أهله: «نروح كل سنة لكربلاء انطبر ونلطم، هاي غايتنا، ليش؟.. 13 مليون يشاركون بركضة طويريج، ليش ما سويتوا هذي الركضة ركضة الإصلاح والتغيير؟.. هذا نهج الإمام الحسين. إذا إنت تكول آني حسيني، يعني إنت مصلح، إنت ما تقبل بالظلم، وتطالب بحقوقك».