يعد ارتكاب الجريمة بناءً على استفزاز خطير صدر من المجني عليه بغير حق، عذراً مخففاً يستفيد منه الجاني في تخفيف عقوبته. والاستفزاز هنا، كما يعرّفه فقهاء القانون، هو: «كل موقف جارح يتخذه المجني عليه بقصد إثارة غضب الجاني». ومثال ذلك أن يقرض شخص زميلاً له في العمل مبلغاً من المال، ثم يأخذ المدين في المماطلة في السداد عند حلول الأجل، ثم ينكر في فترة لاحقة القضية، ويكذّب الدائن، فيهتاج الأخير وينهال عليه بالضرب. ولم يرتّب الفقه الجنائي هذه القاعدة عبثاً، ففي النهاية نحن كائنات من أعصاب، ولسنا رجالا آليين. ومع هذا، فالقاعدة المذكورة لا تبرئ الجاني، ولا تشرع له أخذ حقه بيده، ولا تتسامح معه إذا أخطأ في حق غيره، لكنها تراعي أنه إنسان. وكأنّ تلك القاعدة تلقي باللوم على المستفِز وهي تخفف عقوبة المستفَز، فلو كانت عقوبة الجاني الحبس سنة واحدة، في حال تعرض لشخص لم يستفزه، فإنه لو حصل على حكم مخفّف بالحبس تسعة أشهر لتعرّضه لشخص استفزه، فكأنّما القاعدة تقول للمجني عليه: لوّم نفسك لمدة ثلاثة أشهر! وفي هذه المنطقة المبتلاة بالطائفية، فإننا في كل مرة نشهد فيها حادثاً طائفياً، نقعد ندين الفاعلين ونتعاطف مع الضحايا، وينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا نلتفت إلى أن أحد أهم أسباب العنف الطائفي هو اتخاذ المواقف الجارحة تجاه بعضنا بعضاً. ويلبّس على الناس من يقول إن الاستفزازات تتحرك في اتجاه واحد، فنحن نجرح ونهزأ ونسخر ونزدري ببعضنا بعضاً، ونكفّر ونفسّق ونبدّع، صراحة أو ضمناً، بكلام واضح ومباشر أحياناً، وبالمداورة في الأساليب والتلاعب بالكلمات في أحيان أخرى. ومع هذا، يبقى للاستفزاز مستويات، إذ الجرح الذي يخلفه شخص في روحي إذا شتمني في عرضي، يختلف عن الألم الذي قد أشعر به إذا سخر من كتاباتي. ولا أعتقد أن هناك استفزازاً أخطر من شتم الرموز المقدسة، خصوصاً تلك التي تدور حولها أسس العقائد والمذاهب. ورغم أنه يصعب عملياً إلزام الجميع بالتوقف عن تخطئة عقائد بعضهم بعضاً، فإنه يمكن التوقف عن النيل من رموز الآخرين واعتبار ذلك ديناً، خصوصاً أن ذلك لن يزيد أو ينقص في معتقدات المسيئين والمستفزين. ورغم أن الاستفزاز فعل غبي على أي حال، ويفترض أن يتوقف أياً كانت درجة خطورته، فإنها ستكون خطوة عظيمة لو توقفت الاستفزازات المؤذية جداً والتي يصعب على الأسوياء، ناهيكم عن المتطرفين، التغاضي عنها. وعلى الرغم أيضاً من أنه لن يأتي يوم تكون فيه نسبة السفهاء صفراً، فإن الأمل في النخب الدينية بالذات، وأهل الرأي والتأثير في مجتمعاتهم، بأن يتوقفوا هم أولاً عن تجريح الآخرين في أقدس مقدساتهم، واستفزازهم في أهم رموزهم. وإلى جانب الأمل والرجاء، فإنه لا غنى عن القوانين الصارمة التي تعاقب على تجريح رموز الآخرين، ولا غنى أيضاً عن الوعي والتثقيف وتدخل العقلاء لإبعاد المسيئين ولجم المستفزين. الإساءة قد تجرح مشاعر بعضهم وينتهي الأمر، لكن لا يمكن ضمان ألا يندفع بعضهم الآخر ليردّ بأعمال عنف مرفوضة ولا يمكن تبريرها وتضر بأشخاص لا ذنب لهم أساساً، لكننا في النهاية بشر.