كانت القصة أغرب من الخيال، أن يجلس الحاكم بأمره مأسوراً أمام المعارض العراقي أحمد الجلبي (1944-2015)، والأخير ظل مكتفياً بالنظر إليه مستغرباً من دورات الزمن، فقال لعدنان الباججي بعد لقاء الـ45 دقيقة مع صدام، والأخير يجلس على سرير جندي أميركي مكسوراً: «فكرت في هذا الرجل، صدام حسين، أي مكانة عالية كان فيها وإلى أي مصير وصل، والإنسان يجب أن لا يشمت بمصائر الآخرين، فأنا لم يكن بيني وبين صدام حسين أي موضوع شخصي، ولا أستطيع الادعاء بأن البعثيين ظلموني، كلا لم يظلموني، بل على العكس كانوا دائماً يتعاملون معي باحترام وتقدير. لكني حزنت كثيراً لما حل بشعبي وبلدي بسبب موضوع الكويت» (ذاكرة العراق، الباججي، «الشرق الأوسط»/ 29 مارس 2010). ومثلما كان ظهور صدام مخيفاً مما تؤول إليه المصائر، كان موت الجلبي وحيداً على كرسيه أكثر مفاجأة ومخيفاً أيضاً، وكأننا نشاهد فيلماً، فأحياناً يلوذ الإنسان بالخيال لصعوبة استيعاب الواقع. أقول: من لم تفاجئه نهايتا صدام والجلبي، وما يحيطهما مِن ريبة؟! ترك الجلبي ملفات حائرة ربَّما لها صلة بنهايته، هكذا التوقعات، الكل مستسلم لغموض ما حدث! لأن شخصاً مثل الجلبي تتحمل قصته اللغط، من مصرف البتراء بالأردن مروراً بدخوله المفاجئ إلى السياسة، ولولا امتهان السياسة ما شاع أمر «البتراء» بهذه الصورة. حتى اللحظة ليس هناك جواب شاف: إلى أين ذهبت أموال «البتراء»؟ هل كانت خسارة فعلية أم صُرفت لتمويل ميليشيات، خلال الحرب اللبنانية؟ أم وضعت في الجيب؟ وأين الشُّركاء في القضية؟ لم يرد الجلبي على مَن يتهمه بالخيانة إلا بالتظاهر بابتسامة ساخرة، فيعلم أن هناك مَن يرضي غروره بالمديح من قِبل خصوم النظام السَّابق، وقد تكاثروا بعد (1990). لقد ملأت جسمه نبال التهم وتزايدت بعد نجاح المهمة، وكان ينتظر فيها لحظة الطهارة من الذنوب، لكن الريبة تعاظمت والتهمة فرخت تهماً، ومن معارضة الأمس وسلطة اليوم، حتى صرحوا أنهم أسقطوا النظام لا الجلبي ولا الأميركان! بينما عاشوا يتنازعون على منابر الحسينيات وملكياتها بدول اللجوء والجلبي يشق لهم الطريق، إلى ما هم عليه الآن، تحت العواصف. أجد لسانه ينشد لقعنب بن ضمرة (ت 95هـ): «إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً/عني وما سمعوا من صالحٍ دفنوا»! ظن الجلبي أن إنجاز المهمة سيرفعه إلى منزلة نوري السعيد (قُتل 1958)، الرقم الصعب وأخطبوط الوزارات، إلا أن الرياح جاءته عاتية من إيران تلك التي ساوم الأميركيين بالقرب أو البعد عنها، لم يكن يتوقع أن الجماعات المنكفئة على نفسها، وتعتبر أميركا «الشيطان الأكبر» سيزاحمونه ويزيحونه إلى الوراء، بعد أن كان أول المتصدرين. كان يظن أن السياسة كلها تحايل، فقال لصاحبه وهما في الطريق وتحت الحماية الأميركية: نبدأ الآن بشتم الأميركان! صُعق صاحبه من هول ما سمع، وكانت بداية فراق بينهما، فهذا يعتبر السياسة كلها حيلة وذاك يعتبرها كلها حسن نية. في لحظة كان الجلبي منتشياً بجهده الطائفي فقال أمام قريب له فجعته العبارة: «سقطت دولة السُّنة»! ويقصد الدولة العراقية، وقد تناسى أن أُسرته كانت الأكثر مناصبَ وثراءً (1921-1958)، وبعدها وصلتها تعويضات ما تأمم منها. لكن المطلع على ثقافة الجلبي، المختلفة عن الدينيين السياسيين، يشك في كل مفردة طائفية تلفظها، فالرجل ليس متعصباً لدين وطائفة، وإنما أراد راحلة يركبها، وكانت الأجواء مهيأة لامتطاء هذه الراحلة، بعد حرب الثماني سنوات مع إيران، وتفقيس هذا العدد من الجماعات تحت جناح الطائفة. تبنى الجلبي مواقف وتراجع عنها، فعندما وجد نفسه لا يستطيع منافسة الطائفيين قولاً وفعلاً، أخذ بالوطنية العراقية، وعندما سألته (رمضان 2006): يا أبا هاشم، «ألست مؤسساً لبيت طائفي»؟ رد مبرراً: «كانت مرحلة»! تحمس لاجتثاث «البعث» ثم تراجع، وعذره: «أردنا حماية المجتثين»! الكلام لا ينتهي عن الجلبي، قبل وبعد (أبريل 2003)، إلا أن الإشارة إلى الملفات الخطيرة، التي تفرغ لها، هي الأكثر أهمية. أخذ، بعد رئاسته للجنة المالية في البرلمان، يكشف أسرار البنك المركزي العراقي بحرفية عالية، وما حصل من غسيل أموال، وملفات فساد، خصوصاً في التسليح، ويظهر مصرحاً بها، بعد أن أمن نفسه بحماية صارمة، استخدمت بإرجاع أملاك العائلة لحظة العودة، حتى أخذ البعض يفهم أنها كانت وراء تفانيه في المعارضة. نقول: هل تجد الملفات الحائرة من يكشفها ولا يخشى الموت على كرسيه وحيداً؟! أما بقية الملفات، فهناك من يعتبره فيها بطلاً ومن يعتبره خائناً، وقد صار في ذمة التاريخ.