لخص الرئيس الهندي «نارنديرا مودي» في افتتاح «المؤتمر الثالث لمنتدى القمة الهندية الأفريقية» يوم 29 أكتوبر الماضي أهداف المؤتمر بالإشارة الصريحة إلى رغبته في تقديم «جاذبية الهند لأفريقيا»، من جهة، وأنه في ذلك لا ينافس أو بالأحرى لا ينشغل بمقاومة الصين في أفريقيا من جهة أخرى! وتعددت الكتابات، من الهند وخارجها، حول تفسير هذه العبارة التي نختصرها بدورها، أولاً في الإشارة إلى طبيعة تاريخ العلاقة بين الهند وأفريقيا على مدى القرنين من ناحية، وإلى قول الهنود بتقديم الخدمات التدريبية وقوة «البرمجة الإلكترونية» الحديثة من ناحية أخرى..وقد بدا لي هذا القول على قدر كبير من الصحة، رغم حاجته لمزيد من الإيضاحات. أما مسألة التاريخ الهندي مع أفريقيا، وقوته الناعمة، فقد لمستها بنفسي فترة الانشغال مع حركات التحرر الأفريقية منذ أوائل الستينيات، حين عشقنا تاريخ «غاندي» في علاقته بالجنوب الأفريقي، وتشكيل أحزاب «الكونجرس» في أنحاء القارة على النمط الهندي، وارتباط أسماء زعماء مثل «نيريري»، «ونكروما»، و«كاوندا»، ثم «مانديلا»، بالفلسفة الغاندية نفسها. وكان لعلاقة «نهرو» بعبد الناصر، ودورهما في تحويل «باندونج» من صيغته الدولية إلى «مؤتمر لتضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية» عام 1958 أثر آخر في تكوين عقل الشباب التحرري في ذلك الوقت. وقد عثرت مع أول الستينيات على أحد الكتب المتميزة حتى الآن في دراسة «الحالة الهندية» في أفريقيا باسم «الآسيويون في شرق أفريقيا 1960»، وكان ذلك بمناسبة اهتمامنا بالشؤون الأفريقية مبكراً بوضع الجاليات غير الأفريقية، التي تتصدى لوجود المستوطنين الأوروبيين في شمال أو جنوب أفريقيا، ومن ثم درسنا وضع الآسيويين بما انفرطوا إليه (هنود وباكستانيين ثم بنجلاديش)، وكذا وضع العرب كجاليات في بعض الدول مثل اللبنانيين في غرب أفريقيا أو العُمانيين في شرقها. وكانت مؤلفات «بانيكار» الكاتب الصحفي الهندي صديق «عبد الناصر» عن «الزعيم»، أو عن «الثورة الأفريقية» شديدة الرواج في العالم العربي. وكان يقلق مصر والعرب في نفس الوقت انتشار «الإسماعيلية» مثلاً في شرق أفريقيا، وموقف قياداتها- مع الأحمدية – موالاة للإنجليز في منطقة حوض النيل! مثلما كان يقلقنا عزوف بعض اللبنانيين أحياناً في غرب أفريقيا- باعتبار الغلبة الشيعية -عن قبول المبعوثين العرب السُنة في هذه المنطقة الحيوية. لكن موقف الهنود عموماً في جنوب أفريقيا، كان مشرفاً إلى جانب حركة«التحرير» وحزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» ضد العنصرية. كما كان موقف الرئيس «نهرو» مشرفاً بعد استقلال دول شرقي أفريقيا، حين نصح الهنود بحسم الاختيار بين الجنسية الهندية أو الأفريقية..وراح البعض يختار البريطانية، أو يدفعون بالزوجات للبقاء «رعايا بريطانيين»، بينما يبقى الأزواج ذوى جنسية محلية...! استفادة من أجواء التجارة التي يسيطرون على معظمها. إذن هذا هو الجو العام الذي يجعل التاريخ الهندي في أفريقيا «قوة ناعمة» أو خشنة، ويفضلونها، ناعمة، رغم احتكاكهم أو استبعادهم أحياناً بحجة تكوينهم للطبقات الوسطى بديلاً للأفارقة (حالة طردهم من أوغندا في السبعينيات)، أو نموهم بالتجارة في عصر العولمة والاحتكارات التي يجيدون التعامل معها. لكن الإغراء ب«القوة التقنية» الجديدة التي يمكن أن تقدمها الهند للأفارقة، وهي واحدة من العناصر المهمة في تجارة الهند الرئيسة حالياً، يجعلها تتوقع كما جرى في كواليس المؤتمر الهندي -الأفريقي، أن تتطور تجارتها من 70مليار دولار لتتنافس الصين فيما بلغته من 200 مليار دولار مؤخراً. ويبقى السؤال عما إذا كانت الرأسمالية الهندية قادرة على منافسة مثل هذا التطور المستقل في الصين، بينما هي تعاني من التبعية للسوق العالمية؟ وحيث أن الهنود موسومون أيضاً بنقل مدخراتهم دائماً إلى بلدهم الأم، لذا فإنهم يروجون – حتى في الإعلام المصاحب لمؤتمرنا هذا – بأن الصين تستنفذ المواد الخام والأسواق وتحجب قوة العمل الوطنية في أنحاء أفريقيا. يذكر أن للصين حوالي مليون فني ومقيم في أفريقيا مؤخراً. والهند تواجه فقر الإعلام والثقافة السياسية الصينية، بإشاعة القول بأن الصين تقتصر على التجارة والاستثمار مهما كان نافعاً، بينما تقدم الهند إغراء دائماً لأبنائها بالاستمرار مندمجين في الثقافات الأفريقية، وخاصة في المنطقة الأنجلوفونية، بحيث لم نعد نشعر الآن -كمثقفين- بغربة مفكرين وعلماء من أصل هندي- مثل محمود ممداني، وعيسى شيفجي وياش تاندون..الخ، مثلما لم نكن نشعر أن علي مزروعي- من أصل عربي، وهذه ميزة تتمتع بها الهند بنفس قوة«السوفت وير»، التي تتفوق فيها عالمياً، خلافاً للصين التي تواجه المظاهرات المضادة، ومشاكل التعامل مع أفريقيا عبر نوعية بضائعها أو استثمارها للمواد الخام الوطنية! وأمام قوة الصين الزاحفة في النهاية أمام الهند، فإن ذلك يجعلنا نعود لنفس السؤال الأول: هل يمكن أن تكون الهند أكثر إغراء؟