يقلق الفلسطينيون، وتغضب المقاومة، وتحتار السلطة بعد ثلاثة أعوام من الانتفاضة وبداية عامها الرابع· ويخشى الكل أن يقع تناقض بين الدولة ممثلة في السلطة الوطنية، والثورة ممثلة في المقاومة الشعبية· وبدلا من أن يتوجه الرصاص إلى قوات الاحتلال ينقلب إلى صدور المقاتلين والشهداء· وتأتي الضغوط الخارجية الصهيونية والأميركية من خلال السلطة لإيقاف المقاومة كشرط للمفاوضة، وتطبيق مشروعات السلام، ومقايضة الفعل بالقول· وتأتي الضغوط الداخلية من شعب فلسطين والمقاتلين على قيادة المقاومة للاستمرار في القتال (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق)· وتحاصر السلطة الوطنية بين المطرقة والسندان، مطرقة المقاومة الشعبية والسندان الأميركي الصهيوني· وتتغير الحكومات بتغيير أسماء رؤساء الوزارات ونوعيتها، طوارئ أو عادية والسبب قائم، علاقة الدولة بالثورة· ويتم التركيز على الأشخاص، رؤساء الوزارات أو أشخاص المجلس الوطني أو قادة الفصائل وكأن التحرر الوطني قائم على أمزجة الأفراد، وكأن الأمر يحسم باغتيال القادة أو طرد أو اعتقال أو اغتيال رئيس السلطة الوطنية من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات· وبعد اندلاع المظاهرات في عموم الأراضي المحتلة بعد قرار الكيان الصهيوني إخراج رمز الدولة كان الهتاف من الثورة للدولة بالروح، بالدم، نفديك يا أبو عمار· وكان هو يرد باسم الدولة تحية للثورة بالروح، بالدم، نفديك يا فلسطين· الثورة تدافع عن الدولة، والدولة تدافع عن الثورة·
والحقيقة أن التوتر بين السلطة والمقاومة توتر طبيعي· وهو التوتر المعروف في تاريخ الثورات بين الدولة والثورة· الدولة التي تفاوض، والثورة التي تقاوم· يد تضع البنود، ويد تحمل السلاح· هكذا كان الأمر في فيتنام على مدى خمس سنوات، المقاومة مستمرة على الأرض، والوفد الفيتنامي يفاوض في باريس· لو توقفت المقاومة لضعف موقف المفاوض· فلم يعد لديه شيء يفاوض به· ولو تعثرت المفاوضة فالمقاومة ليست هدفا في ذاتها بل لإجبار العدو على التنازل، وإعطاء الفرصة له لإنقاذ ماء الوجه بدل الهزيمة التي قد تلحق به لا محالة· فالاستقلال الوطني للشعوب هو المنتصر دائما· وقوات الغزو هي المندحرة دائما· التوتر إذن طبيعي بين الدولة والثورة· وهو توتر لا صراع، وتكامل لا تناقض· الدولة كالدرع تحمي المقاومة، والمقاومة كالرمح تشق الطريق أمام الدولة كي تحصد نتيجة المقاومة· كلاهما يعمل لهدف واحد، الاستقلال الوطنى، بطريقتين مختلفتين، الدولة بالقلم، والثورة بالدم، ومداد العلماء كدماء الشهداء· كلاهما جناحا الوطن، يجمعهما الوطن في الاسم: السلطة الوطنية والمقاومة الوطنية، وفي الميدان، فقادة السلطة جيل قديم من المقاومة، وقادة المقاومة يفاوضون ويعلنون ويضعون شروط الهدنة· وهو التقابل الشهير نفسه بين السياسة والحرب· فالسياسة تحقيق لأهداف الحرب بوسائل أخرى· وقد كان عظماء السياسة من قادة الحرب مثل عبد الناصر وديجول وهوشي منه وماوتسي تونج ونابليون ومانديللا ومروان البرغوتي، والشيخ ياسين، وحسن نصر الله، والإمام الخميني··· إلخ· والخيال واحد، خيال سياسي أو خيال حربي·
الثورة وراء الدولة تحميها من الاستسلام أو المساومات على الحقوق الوطنية، والرغبة في حل القضية بأي ثمن باسم الواقعية الساذجة، والتعب السابق للأوان· والدولة أمام الثورة تحميها من الاتهام بالطفولة اليسارية أو بالمثالية بعيدة المنال، وبالأماني صعبة التحقيق· استمرار الثورة هو الذي يجعل فلسطين 1948 ما زالت في القلب، ويافا وحيفا واللد والرملة وأشدود وعسقلان مازالت تتراءى في الخيال، حية في الذاكرة· وهو الذي يحافظ على فلسطين 1967 باسم الواقعية السياسية من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بإزالة آثار العدوان، والعودة إلى حدود الخامس من يونيو-حزيران ،1967 وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس· الثورة هي التي تعطي الدولة الأمل في حالة اليأس والضعف، والدفع في حالة التوقف، والحركة وقت السكون· والدولة هي التي تعطي الثورة عقلها السياسي، ورؤيتها الخارجية، ومشروعيتها في المحافل الدولية· الثورة هي القلب الذي يدفع ويحرك وينبض، والدولة هي العقل الذي يفكر ويدبر ويحلل· الثورة هي الوقود الذي يشعل ويحمي ويولد الطاقة، والدولة هي التي تختزن الطاقة وتستفيد منها في الصنع والإنتاج· الثورة بلا دولة مضمون بلا شكل، ومادة بلا صورة كما هو الحال في حركات التحرر الوطني، والدولة بلا ثورة شكل بلا مضمون، وصورة بلا مادة كما هو الحال في الدولة العربية الحالية· الدولة لسان حال الثورة وليست بديلا عنها أو نقيضها· والثورة يد الدولة وقبضتها· لذلك كان شعار الثورة قبضة اليد، وكان شعار الدولة ختم النسر· وكلاهما علامة ورمز·
ما يقوي الثورة في فلسطين أنه لا شيء معروضا على الدولة للمفاوضة عليه إلا الكلمات والوعود المشروطة بالتخلي عن المقاومة بلا ثمن حتى تستسلم الدولة بعد أن تفقد رصيدها التفاوضي· وكيف تتخلي الث