شاركت أقاربي قبل أشهر قليلة الاحتفال باليوم الوطني للولايات المتحدة الأميركية الذي يصادف الرابع من يوليو، مثلما كنت أفعل في السنوات الماضية. وحضر هذه المناسبة لفيف من الأميركيين ذوي التعليم العالي، وقمنا بتنظيم ندوة في منزل عتيق مرمّم يقع في أحد أرياف ولاية «فرجينيا». وكان عددنا 15 أو 16 شخصاً، وكلنا من الليبراليين، ولم يكن أي واحد منا قد حصل على أقل من مؤهل جامعي عالٍ واحد، وكلنا من مكثري السفر والمكتسبين لثقافته. وخلال أربعة أيام قضيناها هناك، تحدثنا كثيراً في السياسة، ثم السياسة، ثم السياسة، وقليلاً ما تطرقنا إلى أخبار بطولة العالم في كرة القدم النسائية التي كانت مبارياتها الساخنة على أشدّها في ذلك الوقت. ويتميز أفراد عائلتي بالنشاط وحبّ الحياة، وغالباً ما يتابعون باهتمام شديد الأخبار المتعلقة بالسياسات الوطنية التي تنهمر علينا بغزارة من مصادرها المختلفة. وهي تنبئ جميعاً بأن وطننا يتجه بشكل أسرع نحو اعتناق «المنهج التقدمي»، وأنه يسير بخطى سريعة نحو تعميق وتوسيع الأسس والمفاهيم التي تقوم عليها حقوقنا المدنية. ومن ذلك مثلاً أن المحكمة العليا شرّعت مؤخراً قانون الحق العام لكل المواطنين الأميركيين في الحصول على الرعاية الصحية الذي سبق له أن أثار الكثير من الجدل. ومن بين الأخبار السيئة، وعلى خلفية تكرر حوادث إطلاق النار على تجمعات السود، ومنها حادث مدرسة كنيسة شارلستون والحوادث المرعبة التي أتت من بعده، أن جرائم الكراهية أصبحت تصيب مجتمع الولايات الجنوبية بالصدمة وتدفع بعض الناس إلى ارتكاب أفعال ما كان أحد منا يتخيل حدوثها في مجتمعنا المنفتح. انهماك داخلي ومن حق الحصول على الرعاية الصحية وحتى التمتع بالحقوق المدنية، يبدو أن أميركا قد حققت تطورها المنشود، على الأقل من وجهة نظر تقدمية ضيقة الأفق تتناقض على أقل تقدير مع تقاليد الفئات المحافظة من المجتمع الأميركي وخاصة منها ما يتعلق بإباحة زواج المثليين. وأنا أعتقد من خلال قضاء تلك الأيام مع أقربائي الذين يمكن تصنيفهم ضمن فئة الأميركيين المحافظين، أنهم شعروا جميعاً بأنهم عاشوا أسبوعاً مرعباً من خلال متابعتهم للسياسات المحلية. وبدا لهم مرة أخرى أن المحكمة العليا التي تفتقد لثقة الكثير من الأميركيين، أصبحت تتدخل على نحو غير ملائم في حقوق الولايات المختلفة بمعالجة قضاياها الخاصة بها بطريقة مستقلة. وتعرضت هذه الأجندة الاجتماعية المغرقة في تحررها إلى انتقادات عنيفة من أولئك المحافظين الذين يعتقدون أن الزواج المثلي مرفوض تماماً ولا يمكن لأحد أن يسبغ عليه صفة القداسة. وعبّر هؤلاء أيضاً عن ازدرائهم لمشروع تعميم الاستفادة من الرعاية الصحية بسبب الأضرار التي لحقت بمزوّدي الخدمات الصحية الذين وجدوا أنفسهم على الهامش بسببه. تطورات خارجية خطيرة ولم أشارك كثيراً في الحديث الذي كان يدور في هذا الاجتماع العائلي. ولكن، عندما كنت عائداً إلى بيتي في القطار، شعرت بالصدمة من أن هذه الجماعة من المثقفين الأميركيين لم يتطرقوا بالحديث ولو بكلمة واحدة عن السياسة الخارجية، ولا عن أي من الأحداث التي تطرأ خارج «جمهوريتهم العظمى». وعندما كنا هناك، كان فلاديمير بوتين يواصل تعزيز قواته العسكرية، وكانت الفصائل العسكرية الموالية لروسيا تقتنص المزيد من الأراضي في شرق أوكرانيا. وكانت الصين تسلّط المزيد من الضغط وقوة التأثير على أرخبيل جزر «سبراتلي أيلاندز» في بحر جنوب الصين بعد أن حولتها إلى قاعدة عسكرية. وفي ذلك الوقت، كان الإرهابيون لا يتوقفون عن تفجير قنابلهم وممارسة فظائعهم في مصر ونيجيريا وبغداد، وكان تنظيم «داعش» الإرهابي لا يزال يقاتل في معظم مناطق العراق من دون أن يتمكن أحد من دحره. وها هي أحوال الفلسطينيين تسوء بشكل سريع يوماً بعد آخر. ولا تزال الممارسات الوحشية في جنوب السودان على أشدّها والعالم يقف ساكناً، وشهدت أعداد المهجرين والنازحين السوريين ضمن بلدهم وإلى خارج الحدود تزايداً كبيراً وغير مسبوق عبر التاريخ. وربما تطرق البعض منّا لماماً لمشكلة ديون اليونان، ولكن ليس بالقدر الذي تحدثنا فيه حول قانون الرعاية الصحية «أوباماكير». بين أميركا وإيرلندا وإلى حدّ كبير، شعرت أن هذا التركيز الأميركي غير المسبوق على القضايا الاجتماعية والحقوق المدنية ينطوي على خط إيجابي في التفكير. ولا شك أنه يمثل حالة فكرية أكثر انطواء عند مقارنتها بالأمة من تلك التي سادت في «العهد المكارثي» الذي كان لا يهتم إلا بمشروع هزيمة الشيوعية، أو بفترة الرعب التي عاشها العالم خوفاً من اندلاع حرب نووية لا تبقي ولا تَذَر (ولا يزال أحد الملاجئ المخصصة للحماية من الهجوم النووي قائم حتى الآن قريباً من مكان عملي). أو بتلك الأيام العجاف التي عاشها المجتمع الأميركي خلال السنين الطوال للحرب الفيتنامية البغيضة. ولا ننسى أحداثاً أقرب إلينا زمنياً كانت ذات نتائج مأساوية بالنسبة لنا ومنها مشاركة جنودنا في الحروب الدائرة في العراق وأفغانستان. فإلى أي حد تبدو أيامنا هذه التي نعيشها أكثر انطواء على السلام والاستقرار؟ ربما تكون أميركا قد تحولت الآن إلى بلد أشبه بالدنمارك أو إيرلندا بعد أن أصبح شعبها يركز بشكل أساسي على تسريع وتيرة النمو الاقتصادي وحلحلة مشكلة البطالة والقضايا الاجتماعية الأخرى مثل زواج المثليين والتعليم، ولكن ليس على المشاكل والقضايا المتشابكة التي يشهدها العالم. ويمكنني الآن أن ألتزم منهجاً فلسفياً أتصوّر من خلاله أميركا وهي تتحول إلى حالة خاصة تشبه إيرلندا متضخمة. ويمكنني أن أختلق لنفسي الدواعي التي تقنعني بوجود بعض أوجه الشبه بين البلدين. ومن ذلك مثلاً أن إيرلندا تقع تقريباً على نفس خط العرض الذي تقع عليه واشنطن ونيويورك، وهي أيضاً بلد يتميز باتساع المساحات الخضراء، ويتحدث شعبه الإنجليزية، وهو غني، ينعم شعبه برعاية صحية عالية المستوى، وفاز بحكومة قوية تعكس تطلعات الشعب وترعى مصالحه. ويمكن لإيرلندا أن تشبه أميركا أكثر لو أن عدد سكانها زاد بمعدل 70 مرة. وباتباع هذا النهج في التفكير والتشبيه، يمكننا أن نطابق بين ولاية كاليفورنيا الأميركية وإقليم «كونيمارا» الإيرلندي، وكلاهما يقع أقصى غرب البلدين، وبين ولاية فلوريدا، وإقليم «كاونتي كورك»، وبين مدينتي نيويورك ودبلن، وفي كلا البلدين يكون الأحد هو يوم الذهاب إلى الكنيسة. ولنفترض أيضاً أن أميركا لا تمتلك جيشاً ولا أساطيل حربية، ولا قوة جوية تستحق التحدث عنها، ولا أسلحة نووية، ولا تدين بعقود تحالفية قوية مع إسرائيل واليابان والمملكة العربية السعودية وكوريا الجنوبية. فأميركا في هذه الحالة، لن تمثل أكثر من دولة هائلة الضخامة، منزوعة السلاح، وليست حيادية تماماً، وتحلم بمستقبل أفضل لكل دول العالم، ولا تخطط لشنّ الحروب ضد أحد، ولا تحمل غِلاً أو حقداً ضد أحد. عودة إلى التاريخ ما أروع هذا الحال الذي لا يمكنه أن يتجسّد ويتجلى إلا في مخيلاتنا فقط. وفي حقيقة الأمر، يمكنني أن أنصت بإمعان إلى بعض أقربائي وأقراني، وأيضاً إلى بعض الأميركيين الآخرين المنتمين للحزبين الجمهوري والديمقراطي على حدّ سواء، وهم يقولون: «ولمَ لا؟، لماذا لا يمكننا أن نتحول إلى بشر عاديين؟، لماذا لا نعيد جنودنا إلى أرض الوطن؟، ولماذا نسعى بكل طاقتنا لأن نكون الدولة (رقم 1) في العالم؟، ولماذا لا يمكننا أن نكون كما كنا قبل 130 عاماً، أي في العقد التاسع من القرن التاسع عشر قبل أن نبدأ عصر الاندفاع نحو الخارج بجيوشنا؟. ولكن.. لا يمكننا أن نفعل أياً من هذا ويا للأسف. فلقد أوصلنا اندفاعنا الخارجي إلى أبعد تخوم المحيط الهادي والبحر الكاريبي وقادنا إلى أوروبا. وفي عقد العشرينيات من القرن العشرين عدنا إلى الوطن فقط من أجل العودة مرة أخرى عبر المحيط الأطلسي منذ بداية عقد الأربعينيات (عندما اشتركنا في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشيّة). وفي عقد الستينيات، وجدنا أنفسنا في الشرق الأدنى، والآن أصبحنا أبعد من ذلك بكثير. وبالرغم من جهود أوباما التي تُحسب له لإعادة جيوشنا من أفغانستان، وربما من العراق أيضاً مع ما رافق ذلك من فشل، وجدنا أنفسنا أمام جبهات جديدة مشتعلة وغير آمنة في أوكرانيا والسودان وسوريا والعراق وغيرها من بقاع العالم. وأنا على يقين من أن أعضاء الحزب الديمقراطي لا يريدون أن يحدث مثل هذا. وأعتقد أن الجمهوريين لا يريدونه أيضاً. ولكن ليس من السهل العثور في كل مرة على الطرق والأساليب الملائمة لعكس مسار الأمور. وسبب ذلك ببساطة هو أن أميركا لا زالت الدولة (رقم 1) في العالم مثلما كانت منذ أكثر من 70 عاماً. وها هي الآن تتعثر تحت وطأة المشاكل والالتزامات الخارجية التي تقع على عاتقها بسبب هذه الحقيقة القائمة. وفي وقت ما، ربما بعد 25 أو 40 عاماً قد يتغير هذا الحال. وهذه الأرض التي نعيش عليها (أميركا)، والتي تستأثر بنحو 4.5 بالمئة من عدد سكان العالم، تنتج 20 بالمئة فقط من الناتج العالمي الإجمالي. ولا تمثل الفكرة القائلة بأن في وسع الولايات المتحدة أن تواصل تعهداتها بتحمل الأعباء والالتزامات الخارجية، إلا نوعاً من «الفانتازيا السياسية» كالتي تتحدث عنها بعض الكتب الصادرة حديثاً والتي تحمل عناوين طنّانة مثل (القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً أميركياً). تطوير التعامل مع الحلفاء وليس هناك ثمة من شك في أن إصلاح الأمور وتعديلها بأساليب ذكية ومبتكرة آتٍ لا محالة. ومن أجل تحقيق ذلك، لا بدّ للولايات المتحدة أن تعيد النظر بطريقة تعاملها مع حلفائها، والاستفادة من القدرات الكامنة في المنظمات الدولية، وتحسين استراتيجياتها في التفاوض من خلال تقريبها أكثر من الوقائع والحقائق، وخاصة بعد ظهور وبروز قوى إقليمية متعددة. وينبغي على الولايات المتحدة أن تعيد تكييف نفسها مع الواقع المتجدد، وبما يعني أن عليها تقديم الكثير من التنازلات، وأن تعرف في الوقت ذاته ما الذي يجب التمسك به وعدم التنازل عنه. ولو اجتمعت لها ميزتا القيادة الحكيمة وبعد النظر السياسي، فلن يكون تحقيق هذه التطلعات أمراً مستحيلاً. ودعونا نستدرك الأمور ونضع الأشياء في نصابها لنقول: إن أميركا ليست إيرلاندا. لأن هذا التشبيه لم يكن أكثر من مجرّد تخيل لا يمكن أن يتطابق مع الواقع، لأن أميركا قوة عالمية. وبالرغم من هذا، فإنها تحتاج لأن تعيد النظر في وضعها ومكانتها العالمية حتى تصبح أكثر اعتدالاً وقرباً من الواقع. وأعود الآن لأقول بأن المشاركين في احتفالات أميركا الوطنية، والذين لا يركّزون اهتمامهم إلا على القضايا الداخلية، لا يمكنهم أن يغيّروا الواقع المؤسف الذي نعيشه أبداً. أستاذ التاريخ ومدير معهد الدراسات الأمنية في جامعة «يل» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»