تلقيت رسالة للماجستير لمناقشتها بعنوان «المدارس الدينية ودورها في المشروع الاستعماري الصهيوني.. مركز هاراف نموذجاً». وأرى أن استمرار باحثينا الجامعيين الشبان في سبر غور المؤسسات الإسرائيلية، التي لعبت وما تزال تلعب أدواراً استعمارية، إنما يمثل اتجاهاً محموداً. ذلك أننا بحاجة إلى نظرات أكاديمية معمقة إلى الحراك الداخلي الإسرائيلي تعين المثقف العربي على تفسير ما يرد عن هذا الحراك في وسائل الإعلام. وعلى سبيل المثال، لا يعرف هذا المثقف أن هذه المدرسة الدينية الإسرائيلية تمثل البوتقة الفكرية التي نبتت وترعرعت فيها مفاهيم التطرف الصهيوني على أرض فلسطين منذ أسسها الحاخام كوك في عشرينيات القرن الماضي. لقد فرخت هذه المدرسة جماعة «جوش إمونيم» المتطرفة التي صكت شعار «العربي الطيب هو العربي الميت»، وهو شعار يوجز رؤيتها القائمة على ما يلي: أولا اعتبار الضفة الغربية جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل يجب ضمه. ثانياً أن العرب سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين هم من الوثنيين الذين يحل لليهودي سفك دمائهم. ثالثاً أن الاستيطان في أرض فلسطين التاريخية هو واجب ديني يهودي. لقد نمت هذه الأفكار في مدرسة مركز هاراف فى تربة المفاهيم التى مهدها الحاخام أفراهام كوك والتى ثبتها من بعده ابنه الحاخام تسيفي كوك. لقد استطاع كوك الأب أن يحتل منصب الحاخام الأكبر في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني ووضع نصب عينيه هدف التوفيق بين الصهاينة العلمانيين والصهاينة الدينيين من خلال مدرسة مركز هاراف. أطلق الحاخام لهذا الغرض مجموعة اجتهادات دينية ليغير موقف المتدينين من الصهيونية العلمانية والتي كانوا يعتبرونها كفراً لمخالفتها لعقيدة «المسيح اليهودي المخلص». لعبت المدرسة دوراً هاماً في هذا الأمر منذ عشرينيات القرن الماضي وتمكنت من توحيد جهود العلمانيين والمتدينين على هدف احتلال فلسطين والتخلص من شعبها. لقد خلع الحاخام كوك من خلال تأويلاته للنصوص والعقائد الدينية القداسة على كل من يقوم باستيطان فلسطين سواء أكان علمانياً أم متديناً لدرجة أنه اعتبر المستوطنين آنذاك منتمين للعصر المسيحاني ورأى أن رواد الاستعمار الاستيطاني غير المتدينين إنما يقومون بوعي أو بدون وعي بإنفاذ الإرادة الإلهية التي تقضي بأن استيطان فلسطين هو المقدمة الضرورية لقدوم المسيح اليهودي المخلص من السماء واكتمال العصر المسيحاني، أى عصر الخلاص اليهودي. لقد قاد جهود المدرسة الحاخام كوك الابن بعد وفاة والده ولعب مع تلاميذه دوراً كبيراً في إقامة دولة إسرائيل على أشلاء الشعب الفلسطيني. كذلك تحول خريجو المدرسة إلى مؤسسين لمدارس أخرى ومعاهد على نفس الأسس والمبادئ في جميع أنحاء فلسطين. تبين رسالة الماجستير المذكورة أن نفوذ الحاخام تسفي كوك الابن قد اتسع ليشمل أيضاً المنظمات اليمينية الإسرائيلية العلمانية التي عارضت اتفاقية السلام مع مصر لما تعنيه من انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء المصرية. مثال ذلك حزب «هتحياة» (أي النهضة)، والذي أسسه العالم النووي يوفال نئمان وتولت رئاسته جئولا كوهين تلميذة بن جوريون التي اشتهرت بسبب مواجهتها في الكنيست لمناحيم بيجين وقيامها بتمزيق معاهدة السلام التى وقعها مع الرئيس المصري أنور السادات. إن مدرسة الحاخام كوك ما زالت قائمة وتلعب دوراً متصلا في محاربة جماعات السلام الإسرائيلية ودعم التوجهات المتطرفة لحكومة نتنياهو من خلال حزب «البيت اليهودي» بقيادة بينيت، إن تعميق معرفتنا بهذه المدرسة والمؤسسات والشخصيات المرتبطة بها يمثل ضرورة حيوية لفهم التطرف الديني اليهودي المتزايد والذي يرتكب جرائم إرهابية شنيعة ضد المدنيين الفلسطينيين الآمنين لإجبارهم على هجران القدس والرحيل عن ديارهم في بقية فلسطين.