مما لاشك فيه أن الاختراقات والاكتشافات التي تمت في عالم المضادات الحيوية، بداية من العقود الأولى للقرن الماضي، وحتى الآن، تعتبر من أكبر إنجازات الطب الحديث على الإطلاق، فمن الصعب تخيل إمكانية القيام بجزء كبير من الممارسات اليومية الروتينية في الطب الحديث، وخصوصاً على صعيد الجراحات، والعلاج الكيماوي، ونقل وزراعة الأعضاء، بدون المضادات الحيوية، كما يقدر أن هذه النوعية من العقاقير أنقذت بالفعل حياة الملايين من البشر -إن لم يكن مئات الملايين- في ظل حقيقة أنه عبر التاريخ البشري دائماً ما كان يلقى كثيرون حتفهم نتيجة عدوى بكتيرية (بسيطة) بمعايير اليوم. وحالياً، لا يمر عام كامل على كثيرين منا، دون أن يلجؤوا لاستخدام المضادات الحيوية مرة على الأقل -أو أكثر في بعض الأحيان- للدفاع عن حياتهم، ومقاومة غزو أجسامهم من قبل بكتيريا ما. إلا أن هذا الإنجاز العلمي الهائل، أصبح مؤخراً عرضة لأن يذهب أدراج الرياح، مع زيادة مقاومة أصناف البكتيريا لأنواع المضادات الحيوية التي نستخدمها ضدها، فالبكتيريا، تتغير مثل بقية الكائنات الحية -وإن كان ذلك بشكل أكثر مرونة وسرعة- وتتكيف، وتتلاءم مع البيئة المحيطة بها، ومع العوامل السلبية التي تؤثر عليها، في شكل مستمر ومتواصل ضمن نوع من النشوء والارتقاء، وتبعاً لمبدأ البقاء للأصلح، فمن خلال تغيرات وطفرات في المادة الوراثية للبكتيريا تفقد المضادات الحيوية فعاليتها وتصبح عديمة الجدوى في قتل البكتيريا المستهدفة، أو حتى وقف تكاثرها. وهذه الظاهرة، التي هي جزء من تفاعل الكائنات الحية مع بيئتها المحيطة، شهدت خلال الأعوام القليلة الماضية تزايداً متسارع الوتيرة، بدرجة أصبحت تثير قلق العلماء والأطباء من تبعاتها الوخيمة. وهذه التبعات تتجسد في حقيقة أن 700 ألف شخص يلقون حالياً حتفهم كل عام، نتيجة العدوى بالبكتيريا فائقة المقاومة للمضادات الحيوية، والمعروفة بالجراثيم السوبر (Superbugs). وحسب بعض الاستشرافات المستقبلية التي أجرتها معاهد بحثية متخصصة وإحصائيون وخبراء اقتصاديون، يتوقع بحلول عام 2050 أن هذه الجراثيم السوبر ستفتك بعشرة ملايين شخص سنوياً، أي بواقع وفاة كل ثلاث ثوان. وبخلاف هذا الثمن الإنساني الفادح، يتوقع أيضاً لما أصبح يعرف بعصر ما بعد المضادات الحيوية تكلفة باهظة على الاقتصاد العالمي، تصل في بعض التقديرات إلى 100 تريليون دولار بحلول عام 2050. وهو ما حدا بمنظمة الصحة العالمية، بالتعاون مع العديد من المؤسسات والجهات الأخرى الناشطة في مجال الصحة الدولية، لإطلاق فعاليات وأنشطة للمرة الأولى خلال شهر نوفمبر الماضي، ضمن الأسبوع العالمي للتوعية حول المضادات الحيوية (Antibiotic Awareness Week)، بهدف تصحيح المفاهيم الخاطئة عن هذه النوعية بالغة الأهمية من العقاقير الطبية، والتحذير من عقبات إساءة استعمالها على مستقبل الرعاية الصحية، وأتت فعاليات هذا الأسبوع، على خلفية تزايد القلق والمخاوف من انتشار وتعاظم قدرة البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية، وما سيكون لهذه الظاهرة من تداعيات خطيرة على الجنس البشري، وضرورة إيجاد طرق جديدة ووسائل مبتكرة لمجابهتها. وأمام هذه الكارثة المرتقبة، التي يتوقع كثيرون أن تعيد الطب والعلاج إلى العصور المظلمة، يقدح العلماء أذهانهم، وتبذل بعض الحكومات والجهات المعنية جهداً حثيثاً لمنع وقوعها. وآخر تلك الجهود، تقرير صدر عن لجنة خاصة شكلها رئيس الوزراء البريطاني، وترأسها اقتصادي شهير هو «جيم أونيل»، وخرجت حديثاً بعدد من التوصيات والإجراءات. ومن أهم هذه التوصيات نذكر، أولاً: إطلاق حملة توعية عالمية، وبسرعة، على نطاق عالمي هائل، تستهدف جميع المجتمعات والشعوب، في ظل حقيقة كون الغالبية العظمى من بني البشر على غفلة تامة من خطورة الموقف الحالي. ثانياً: تأسيس صندوق عالمي، بقيمة ملياريْ دولار، لدعم المراحل الأولية من الأبحاث والدراسات. ثالثاً: توفير مصادر ملائمة لمياه الشرب النظيفة، وتطوير نظم الصرف الصحي، ورفع كفاءة ونظافة المنشآت الصحية لمنع العدوى من الانتشار. رابعاً: خفض الاستخدام، أو بالأحرى الإفراط وإساءة استخدام المضادات الحيوية في المجال الزراعي، وتربية الحيوانات، مع فرض حظر تام في هذا المجال على استخدام أنواع المضادات الحيوية الحرجة وبالغة الأهمية للاستخدامات البشرية. خامساً: تحسين ورفع كفاءة نظم رصد ومتابعة مقاومة المضادات الحيوية. سادساً: دفع مبلغ مليار دولار لكل شركة أدوية تتمكن من اكتشاف نوع جديد من المضادات الحيوية. سابعاً: توفير حوافز مالية لتطوير فحوصات واختبارات، تمكن الأطباء من تحديد ما إذا كانت العدوى بكتيرية بالفعل، لوقف استخدام المضادات الحيوية في حالات العدوى الفيروسية، التي لن تجدي معها المضادات الحيوية نفعاً. ثامناً: زيادة الاستثمار في مجال التطعيمات الطبية، كطريقة أكثر فعالية، وأطول مدى من المضادات الحيوية.