يرتاد المفكر والفيلسوف الفرنسي الشهير «لوك فيري» في كتابه الصادر مؤخراً تحت عنوان: «الثورة ما بعد الإنسانية»، حقلاً بالغ الحدة والجدة، في الوقت نفسه، هو ما بات يسمى تقنيات «ما بعد الإنسانية» والاقتصادات التشاركية، وهذه تعبيرات تقريبية للدلالة على هذا الحقل، الذي هو أحد آخر مخرجات التزاوج بين الطب الجيني وتقنيات العالم الافتراضي الأكثر حداثة وآخر صرخات الرأسمالية المتوحشة! وقد اختار «لوك فيري»، وهو أيضاً رجل سياسة ووزير تعليم فرنسي سابق خلال الفترة من 2002 إلى 2004، التعرض لهذا الموضوع، بطريقة استكشافية، لكونه غير مطروق كثيراً في الثقافة الفرنسية والأوروبية عموماً، ويكاد يكون من بنات أفكار ما يمكن تسميه اليسار الافتراضي الطوباوي الجديد في أميركا، وتحديداً يسار الراديكالية الافتراضية في عوالم وادي السيليكون. وفي البداية يذكر الكاتب أنه لم يكن من قبيل الخيال العلمي تعهد فريق من علماء الجينات الصينيين في 18 أبريل 2015 بالعمل على «تحسين» الجينوم البشري لـ83 جنيناً بشرياً، وذلك بالعمل على تعديل مواصفات هذه الأجنة في مختلف المواصفات والملَكات. وهنا يتساءل المؤلف: إلى أين سيأخذنا إذن هذا الطريق؟ وهل سيمكّن البحث مستقبلاً من التأثير على مواصفات الأطفال المواليد من حيث الذكاء والقوة ومكافحة الأمراض الوراثية وإطالة أمد الحياة المتوقع للكائن البشري؟ وهل يعني، استطراداً، أن البحوث في مجال الجينات ستؤدي إلى التدخل العلمي لإيجاد نوع من أطفال الكاتالوج بمواصفات معينة مطلوبة أو مرغوبة، بحيث يكونون بمعنى ما نوعاً من الإنسان «المطور»، أو الإنسان «الجديد»، أو لنقل بعبارة أكثر بساطة إنسان «ما بعد الإنسان» transhumaniste؟! إن هذا هو ما يشتغل عليه الآن كثير من المعامل والمختبرات البحثية «ما بعد الإنسانية»، وهي تحظى في هذه لجهود بدعم مالي كبير من قبل بعض أكبر شركات عالم «الويب» والفضاء الافتراضي. والأكثر إثارة للانتباه -والقلق أيضاً- أن الاختراقات والاختراعات في هذا النوع من تقنيات العلم الحيوي تسير بوتيرة سريعة لا يمكن تخيلها، ولذلك فهي تتفلت من أي ضوابط وقواعد تنظيم محددة. وبموازاة مع ثورة التقنيات «ما بعد الإنسانية» هذه سمح العالم الافتراضي أيضاً ببزوغ ثورة اقتصادية أخرى هي ما يعرف بالاقتصاد التشاركي أو التعاوني، وهي تلك التي ترمز لها تطبيقات من قبيل Uber وAirbnb أو BlaBlaCar. ومثلما ذهب إلى ذلك المنظّر الأميركي جيرمي ريفكن فهذه الثورة الاقتصادية التشاركية، التي تسمح بالتعامل والتعاون اللحظي بين أطراف عملية التبادل الاقتصادي، في الوقت الحقيقي IRT، تمثل في الواقع إعلاناً صريحاً عن نهاية الرأسمالية كما كنا نعرفها، لمصلحة عالم حالم جديد من المجانية والأريحية والالتزام تجاه الآخر. ولكن «فيري» يرى عكس هذا الرأي، فتزاوج أوهام وأحلام عمالقة العالم الافتراضي مع إمكانات الاقتصاد الرقمي التشاركي، وانفلات البحوث الجينية والبيولوجية، وتقنيات النانو تكنولوجي، وبرامج الروبوتات والذكاء الصناعي، كل هذا من شأنه أن يؤدي إلى ظهور نوع جديد من الليبرالية المتوحشة المفرطة، التي تخرج عن أية إمكانية رقابة أو تقنين أو ترويض، مع كل ما يعنيه هذا الخليط الخطير من تهديدات وتحديات وجودية للإنسانية جمعاء. وفي الأخير يؤكد الكاتب أن بحوث ما يسمى «ما بعد الإنسانية» فضلاً عن تعارضها مع القيم الدينية، والأخلاقية، تقوم أيضاً على حزمة أوهام غير واقعية، فليس الكائن البشري مجرد حاصل جمع لمكونات بيولوجية مادية، يمكن التحكم فيها أو التلاعب بها، كما لو كان إنساناً- آلة، أو إنساناً- روبوت! وأما الاقتصاد التشاركي الحالم -وبكلمة أدق الواهم- فليس هو أيضاً سوى تقليعة يوتوبية، لا يمكن أن تتكشف في النهاية سوى عن تغول آخر من تغولات وشطط الليبرالية المفرطة، وإن كان، هذه المرة، تغولاً افتراضياً «تقدمياً» بالاسم، ورجعياً متوحشاً في النتيجة والمآل، على كل حال. حسن ولد المختار الكتاب: الثورة ما بعد الإنسانية المؤلف: لوك فيري الناشر: بلون تاريخ النشر: 2016