الزيارة الأولى التي قام بها مؤخراً وزير الدفاع الأميركي «آشتون كارتر» إلى نيودلهي حفلت بالكثير من المتابعة من لدن المهتمين بشؤون القارة الهندية والمحيط الهندي، خصوصاً أن الضيف الأميركي عقد خلالها لقاء مطولاً مع رئيس الحكومة الهندية «ناريندرا مودي»، ووزير دفاعه «مانوهار بريكار». المعروف أن الهند تمكنت بنجاح، بفضل سياستها الخارجية المرنة، من تغيير جلدها بمجرد سقوط حليفتها الاستراتيجية السابقة، واتخذت من واشنطن حليفة بديلة لموسكو، لكن مع الإبقاء على شيء من التعاون الاستراتيجي مع روسيا الاتحادية. حدث ذلك في ظل قيادة حزب المؤتمر للهند، وحافظت عليه كل الحكومات الهندية المتعاقبة الضعيفة منها والقوية. وها هي حكومة «مودي» المتهمة بالتشدد القومي، تواصل النهج نفسه لاعتبارات سنتعرف عليها تباعاً. ما يشغل نيودلهي اليوم بالدرجة الأولى هو الصعود المتنامي لقوة الصين العسكرية التي باتت تتمدد في مياه المحيط الهندي، وفي الحديقة الخلفية للهند ممثلة في بورما وسريلانكا والمالديف، دعك من باكستان التي صارت منذ ستينيات القرن الماضي أوثق حليفة لبكين في منطقة جنوب آسيا، ناهيك عن نجاحها في بسط سيطرتها على بحر جنوب الصين، وما به من جزر تتنازع السيادة عليها مجموعة من دول جنوب شرق آسيا مثل بروناي وفيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا، ومما يشغل صانع القرار الهندي أيضاً الفجوة التكنولوجية والعسكرية بين بلاده والصين، خصوصاً إذا ما عرفنا أن الجيش الأحمر الصيني يعتبر اليوم واحداً من أقوى جيوش العالم بعدد من العناصر يتجاوز الـ2.3 مليون نسمة، وبميزانية تتجاوز 150 مليار دولار. أما واشنطن، التي كررت إدارتها الأوبامية في أكثر من مناسبة أنها تعيد توجيه بوصلة سياساتها من الشرق الأوسط نحو الشرق الأقصى، فمهمومة أيضاً بمسألة الصعود العسكري الصيني، لكن لأسباب أخرى لها علاقة بحماية مصالحها في أقطار جنوب شرق آسيا، (سواء تلك الحليفة لها منذ زمن طويل، أو تلك التي يمكن إغراؤها بالتحالف لمواجهة الخطر الصيني المشترك مثل فيتنام التي زارها أوباما مؤخراً لبحث هذا الأمر تحديداً)، خصوصاً بعدما تجاهلت بكين التحذيرات الأميركية بعدم إقامة منشآت في بحر جنوب الصين، أو تغيير طابع مجموعة الجزر الصخرية المتنازع عليها في هذه المنطقة، والتي يُقال إنها غنية بالنفط والغاز والمعادن. وهكذا نرى أن موضوع الصين وصعودها العسكري في مياه المحيط الهندي على نحو ما كان يفعله الاتحاد السوفييتي السابق زمن الحرب الباردة هو القاسم المشترك الأبرز بين واشنطن ونيودلهي، وأن الموضوع الباكستاني تراجع إلى الخلف في ظل إصرار الأميركيين على عدم قطع شعرة معاوية مع إسلام آباد، على أمل استخدام الأخيرة في حلحلة بعض الملفات الإقليمية كملف إحلال السلام المتعثر في أفغانستان مثلاً. من هنا كان اللقاء الأميركي- الهندي المشار إليه مهماً، ويعكس رغبة الهنود في طرق جميع الأبواب من أجل إبعاد النفوذ الصيني عن ما يعتبرونه منطقة حيوية لمصالحهم الاستراتيجية، ويعكس في الوقت ذاته رغبة الأميركيين في تلجيم الطموحات الصينية الصاعدة بكل الأشكال، لاسيما أن بكين تستخدم نظام بيونج يانج المارق كمخلب قط لتهديد أبرز حليفتين للولايات المتحدة في الشرق الأقصى وهما اليابان وكوريا الجنوبية. ومن هنا أيضاً لم يكن غريباً أن يترشح عن محادثات الوزير «أشتون كارتر» مع نظيره الهندي ما يفيد باتفاق البلدين على فتح القواعد العسكرية لكل منهما أمام الطرف الآخر للاستخدام في حالات الضرورة مع وعد أميركي للهند بتجسير الهوة التكنولوجية والعسكرية التي تفصلها عن الصين. ولأن «مودي» يعرف جيداً حساسية شعبه تجاه فكرة حضور قوات أجنبية على أراضيه، ناهيك عن علمه المسبق باحتمال أن يستغل حزب «المؤتمر» المعارض مثل هذا الموضوع جماهيرياً ضد حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم في أي انتخابات مقبلة، فقد أصر على ألا توجد أي قوات أميركية داخل القواعد العسكرية الهندية، وأن يقتصر تعاون الدولتين على تقديم التسهيلات الفنية واللوجستية في حالات الضرورة فقط، أي على نحو ما كان قائماً بين نيودلهي وموسكو زمن الحرب الباردة.