في قصة نبي الله موسى، عليه السلام، العظة الكبرى، حين صام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر فذهب لميقات ربه عجولًا. فسأله (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى). إنه الصدق وصفاء الروح. وقد كان رسول الرحمة، صلى الله عليه وسلم، يتحنث في غار حراء. ولم تكن حانت لحظة البعثة والرسالة. وقد تجلى له الوحي في رمضان بعد صقل الروح لتلقي رسالة السماء، فأنزل عليه القرآن الكريم في ليلة «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الملَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ». وعند عيسى، عليه السلام، تتكرر نفس القصة والمعاناة فيصوم أربعين يوماً وأربعين ليلة حتى جاع، فدنا منه المجرب ويأتيه الاختبار الأعظم في ثلاثة امتحانات عصيبة إن كنت النبي فقل لهذه الحجارة أن تتحول إلى خبز فتطفي جوعتك. وإن كنت كما تزعم انظر إلى المدينة المقدسة فاسبح طائراً فلن يحدث لك شيء ولسوف تحملك الملائكة، ثم أراه مجد العالم وقال اسجد لي مقابل هذا، ليخرج بثلاث حكم، لا تجرب الرب إلهك، ولا يحيا الإنسان بالخبز وحده، بل بكل كلمة طيبة تخرج من الفم، ولا تغرك شهوات العالم حين يدفعك الشيطان باتجاهها، فالله اعبد مخلصاً له الدين. وحتى بعض الحكماء أيضاً آثروا الصيام. وفتجنشتاين فيلسوف الوضعية وتولستوي وحكماء كثر آخرون آثروا العزلة والزهد والصوم وقلة الكلام وقلة الطعام فتدفقت الحكمة من قلوبهم على أفواههم. وفي الآثار من أخلص لله أربعين ليلة أجرى الله الحكمة من قلبه على لسانه. وهو ما جرى ويجري لكل من نعرف من المرموقين والمشهورين. بل تأتينا الأبحاث عن المعمرين والسعداء والنجباء لنكتشف أنهم من القوم الصوامين القوامين التائبين السائحين الذاكرين الله كثيراً والذاكرات كل على طريقته. وتأتي الاختبارات تترى على أن الصوم ينقي البدن من مخلفات الاحتراق، ويقوي الترميم كما ثبت في اختبارات أجريت في جامعة ويسكونسن ودامت 17 عاماً. وبكل أسف هذه المعاني المهمة تختفي وتنقلب في كثير من أرجاء العالم الإسلامي، ليتحول رمضان إلى موسم بدانة ونوم، أو على نحو أبشع قتال في الفلوجة وتدمير لما تبقى من حلب! وفي القرآن الكريم حديث عن الأشهر الحرم، وأن المشركين تلاعبوا بالمواقيت كي يستمروا في الاقتتال كما هو الحال الآن في سوريا والعراق، كانوا يقولون نعم ثلاثة أشهر حرم هي ذي القعدة وذي الحجة ومحرم الحرام، ذو القعدة نقعد فيه عن القتال، وذو الحجة نحج فيه، ومحرم شهر محرم أي لا عنف فيه حتى يرجع الحاج آمناً إلى بيته، ورجب ويعني العظمة للعمرة، قالوا وبخبث وتحايل ولكن لنستبدل الأوقات ونستمر في الاقتتال، فنزلت الآية تقول إن لعبة من هذا النوع في عدم الرضوخ لروح السلام لا توصف إلا بأنها زيادة في الكفر. وكان رسول الرحمة، صلى الله عليه وسلم، يخاطب أصحابه قبل الوفاة لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض. وفي قتال الفلوجة وغداً الرقة والموصل، يرى كل فريق من الفريقين المتحاربين أن الفريق المقابل من أهل النار. إن هذا يذكرني أيضاً بتيمورلنك الرهيب الذي كان يرافق حملاته الدموية الملا والإمام والمؤذن فيباركون مذبحته حيث مشى وقتل! إن أوضاعنا تجعل الإنسان يمشي على رأسه بدون أن يحس بالدوار، ولكن من يمش على رأسه يخسر رأسه ورجليه معاً. د. خالص جلبي