بمجرد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها انهمك الباحثون في عقد المقارنات بين النازية والنظام السوفييتي واصمين كلا النظامين بالاستبداد والشمولية. وتصدى لهذه المدرسة مجموعة من المؤرخين الإصلاحيين الذين ادعوا أن من الظلم الجائر إلحاق الاتحاد السوفييتي بمسيرة الفظائع والتجاوزات النازية. وبرغم جميع ما ارتكبته من أخطاء، كما يدعي هؤلاء، فإن الحكومة الشيوعية تختلف اختلافاً بيناً عن ألمانيا النازية إذ استطاعت تحقيق العديد من المكاسب لشعوبها في دول الاتحاد بينما ظلت النازية تعتبر الغرب سبباً في انهيار وتداعي الروح المعنوية للشعب الألماني. أما الاتحاد السوفييتي فقد ثابر في نشر التعليم والقضاء على الأمية والتخلف وعمل على تحديث وترقية الصناعة وتحسين الظروف الصحية للمواطنين بالإضافة لاكتساب موقع الصدارة العالمي لدولة كانت غارقة في التخلف حتى قبيل عام 1917. ولكن تفكك الاتحاد السوفييتي فيما يبدو قد حرر المؤرخين في نهاية المطاف من أسر هذا الجدل العقيم. وبداية من عام 1992 عندما صدر كتاب "هتلر وستالين- حياتان متوازيتان" لمؤلفه آلان بولوك عادت تلك المقارنات لتطفو مرة أخرى على السطح وبكامل قوتها.
والآن دلف ريتشارد أوفيري الذي طالما عرف بمؤلفاته التاريخية الرائعة عن الحرب العالمية الثانية وألمانيا النازية، إلى هذا المدخل بكتابه الذي يحمل عنوان "الديكتاتورية" الذي نعرض له اليوم. والذي يعتبر الأكثر تفصيلاً وشمولية في المقارنة على الإطلاق. ويتميز هذا الكتاب أيضاً بأنه أكثر منظومية وترتيباً في الأفكار من كونه مجرد سير ذاتية حيث يعتمد على أدب القراءة الممنهج الذي تتقاطر من حوله المعلومات والأفكار في سلاسة ودونما تكلف. ويمضي الكاتب يعقد المقارنات والتباينات الواضحة في النظامين بشكل أخاذ لذا لم يكن من المستغرب أن يثمر هذا الجهد دراسة ثرية وعميقة، على الرغم من أنها تتطلب من القارئ أن يتسلح بمستوى عالٍ من المعرفة والمعلومات قبل أن يبدأ الخوض في هذا السفر.
وبالطبع فإن كاتبنا أوفيري يدرك تماماً الاختلافات الجوهرية بين النظامين السوفييتي والنازي. ولكنه يخلص إلى أن المتشابهات تتفوق بكثير على الاختلافات. فكلا النظامين برز إلى الوجود في أعقاب الحرب العالمية الأولى كنتيجة طبيعية للفشل الذريع الذي لحق بالليبرالية والديمقراطية البرلمانية. وكان كل من ستالين وهتلر يرى في ديكتاتوريته ضماناً للديمقراطية في أعلى مستوياتها. وبينما كانت الأحزاب السياسية الغربية تمثل المصالح الطبقية والفئوية ادعى ستالين أنه جاء لكي يخدم حاجات الطبقة العاملة. أما هتلر فقد تعهد من جانبه بأن تعمل النازية على تحرير العنصر الألماني من الإذلال الذي ألحقته به الهزائم والاستغلال اليهودي. بل إن كلا النظامين كان يعتمد على شعارات ورؤية مثالية قال عنها أوفيري إنها "تتشابه في الشكل" برغم اختلافها الكبير في "الهدف والمضمون".
وإلى ذلك فإن كلا النظامين كان يدرك أين يكمن أعداؤه الحقيقيون. وبحسب كلمات أوفيري "كانت الأفكار الليبرالية الغربية الخاصة بالتقدم تركز على سيادة الفرد وفضائل المجتمع المدني بالإضافة إلى ضرورة القبول بالتنوع". ولكن جواكيم فون رينتروب وزير خارجية هتلر علق على هذه الأفكار وهو يقول لستالين في عام 1940: إن كلاً من روسيا وألمانيا قد تم إذلالها بنفس الدرجة من قبل ديمقراطيات الأغنياء المتجمدة بدعوى أننا نقف حجر عثرة أمام النظام العالمي الجديد. ولكن الأعداء كانوا في كل مكان. ويبدو أن أوفيري كان محقاً، عندما كتب يقول: في كلتا الحالتين كانت الحملة على الأعداء مظهراً من مظاهر الضعف والخوف وليس القوة. ذلك الضعف الذي انتهى بالنظامين إلى "امبراطورية معسكرات التعذيب".
بيد أن جل اهتمام أوفيري قد انصب على المجال الاقتصادي في النظامين. وبينما اعتمد ستالين خطة خمسية فإن خطة هتلر كانت من أربع سنوات. وفي منتصف حقبة الثمانينيات بلغ عدد البيروقراطيين الحكوميين الذين انهمكوا في التخطيط للاقتصاد الألماني سبعة أمثال أولئك الذين تم استخدامهم من قبل الاتحاد السوفييتي في أوائل الثلاثينيات. ولكن أوفيري كشف بجلاء أن السوفييت قد برهنوا بعد انهيار النظامين في 1941 على كفاءة وفعالية اقتصادية أكبر بكثير من تلك التي تمتع بها النازيون. وعلى الرغم من أن موسكو فقدت السيطرة على 40 في المئة من تعدادها السكاني وربما نسبة أكبر من ذلك في قاعدتها الصناعية إلا أن هتلر ظل يجلب ويستغل الموارد من كامل بقاع القارة الأوروبية. ورغم ذلك استطاع الاتحاد السوفييتي أن يتفوق في إنتاجه على العدو وبخاصة فيما يتعلق بأساسيات المعيشة.
على أن أوفيري قد فشل في إقناعنا في النقطة التي تتعلق بالتأييد الشعبي. فهو كمتخصص في التاريخ الألماني وليس السوفييتي مال إلى المبالغة في المدى الذي اعتمد عليه كل من النظامين في اكتساب الدعم والتأييد الشعبي أو القبول على الأقل. لقد أتى النازيون إلى السلطة عبر انتخابات شبه رسمية. ولكنهم اكتسبوا