انعقدت قمة حلف شمال الأطلسي «الناتو» الأخيرة يوم 8 يوليو الجاري في ظروف شديدة التوتر بين دول الحلف وروسيا. وهذا المناخ الجيوبوليتيكي المضطرب ذو جذور قديمة: فروسيا تعارض الحلف في أكثر من ملف، وهو ما غذته من قبل الحرب في جورجيا، وصولاً إلى اختلاف المواقف الكبير في سوريا. ولكن الأزمة الأوكرانية بكل تأكيد هي التي سمّمت في الواقع العلاقات بين روسيا و«الناتو». ومع هذه الحقيقة، التي لا مراء فيها، فإن الحديث أيضاً عن «حرب باردة جديدة» لا يعدو كونه هو أيضاً ضرباً من المبالغة، وعدم الدقة في التعبير. إذ لا يوجد اليوم معسكرا قوة متكافئان يطمح كل منهما إلى تدمير الآخر، ويدافعان عن رؤيتين متصارعتين للعلاقات الدولية، وإنما توجد اليوم منافسة تقليدية بين قوتين ذواتي قدرات غير متساوية. فروسيا لا يمكن أن تضاهي الولايات المتحدة في القوة العسكرية، وهي أيضاً أبعد من ذلك في مواجهة القوة النارية المجمّعة لكافة بلدان «الناتو» معاً. ومن هنا فإنه لا يوجد تهديد روسي داهم على دول الحلف، حتى لو كانت السياسة الروسية قاسية على دول الجوار. والحال أن دول «الناتو» ذاتها تتبنى مقاربتين مختلفتين تجاه روسيا. فدول حلف وارسو السابق، التي انضمت فيما بعد إلى «الناتو»، وعلى رأسها بولندا ودول البلطيق، ترى في روسيا تهديداً وجودياً بالنسبة إليها. ولئن كانت هذه المقاربة قد تبدو مبالغة بعض الشيء في وقت يبدو فيه خطر وقوع تدخل روسي في هذه الدول في حدوده الدنيا، إلا أن هذا لا ينفي أيضاً أن هذا الخطر موجود، وتترتب عليه حقائق استراتيجية قائمة. وفي المقابل، فإن بعض الأعضاء القدامى لـ«الناتو» لا يتبنون الرأي ذاته، وتعتبر فرنسا وألمانيا تحديداً روسيا دولة قاسية في حدود معينة، وخاصة وقبل كل شيء تريان أنها أيضاً شريك استراتيجي محتمل في عدد من الموضوعات الاستراتيجية المهمة. أما الولايات المتحدة، من جهتها، فتدفع لتبني موقف أكثر صرامة تجاه روسيا. ولئن كان باراك أوباما يمكن أن يدعي تحقيق نوع من التهدئة في علاقات أميركا مع بقية العالم، فإن سياسته في إعادة تموضع العلاقة مع روسيا لم تشتغل أبداً بفعالية، وتحديداً بسبب عمليات توسيع «الناتو»، إضافة إلى نشر الدرع الصاروخية التي تعتبرها روسيا غير مقبولة. وفي مقابل الخط الصلب الذي تتبناه الولايات المتحدة يتعين على الأوروبيين إسماع صوتهم. وقد دعا وزيرا خارجية كل من ألمانيا وفرنسا، على التوالي، فرانك- فالتر شتاينماير، وجان- مارك إيرولت، إلى تجنب الانخراط في مجابهة عمياء مع روسيا. وحذرت ألمانيا وفرنسا أيضاً الحلف الأطلسي من مخاطر منطقه الداخلي الخاص، الذي يقود أحياناً لتضخيم التهديد الروسي من أجل تبرير وجود الحلف من الأساس. وحتى لو كان الأمين العام لحلف «الناتو» حرص على أن يجعل تصريحاته موزونة بدقة مع اقتراب موعد قمة الحلف الأخيرة، فقد ظل حتى أشهر قريبة يتبنى في خطابه نبرة عدائية. وهنا أيضاً لعبت تدخلات كل من جان- مارك إيرولت وفرانك فالتر- شتاينماير دوراً مؤثراً في تهدئة اللعب. ويلزم القول، صراحة، إنه ليس من الضروري ولا من اللازم أصلاً إرسال عدة آلاف من الرجال الإضافيين إلى أوروبا لمواجهة تهديد روسي محتمل، ليس فقط لأن هذه المبادرة في غير محلها من وجهة نظر تكتيكية، وإنما أيضاً لأنها تغذي جذوة الخصومات وتبعث بإشارات سلبية إلى روسيا. وبدلاً من ذلك ينبغي نزع فتيل هذه الحلقة المفرغة التي تؤجج التوترات الروسية واستعراضات القوة الأطلسية. وعلى باريس وبرلين بالذات أن تواصلا الضغط للخروج من هذه الحلقة المفرغة. إن على حلف «الناتو» أن يعيد قراءة جردة حساب الطريقة السيئة التي جرى بها الخروج من الحرب الباردة، وما تلا ذلك من عجز غربي عن بناء شراكة مع روسيا. بل إن حلف «الناتو» نفسه كان ينبغي حله في اللحظة التي اختفى وانتفى فيها مبرر وجوده -حلف وارسو- الذي تفكك نهائياً. وعلى العكس من ذلك فضلت الدول الأعضاء في الحلف الاستمرار في التجربة نفسها، بل وتوسعة عضويته، على رغم غياب أي تهديد سوفييتي. ومن هنا فما كان ينبغي أن يتحول «الناتو» إلى بنية قائمة بذاتها، ومتعالية بفكرها وروحها على حاصل مجموع إرادة أعضائها، ولا أن يطلق ويغذي نوعاً من النبوءات المحققة لذاتها، مهيجاً بذلك الخطر الروسي. ولحسن الحظ، يبدو أن مسؤولي الحلف، والمسؤولين الغربيين، أخذوا الآن يتبنون خطاباً أقل تحفزاً للتصعيد، وأكثر جنوحاً للتهدئة، مقارنة بفترات سابقة. وعلينا أن نأمل ألا تقتصر حصيلة هذه القمة الأخيرة على تهدئة التوتر القائم بين روسيا والغرب، وإنما أيضاً أن تكون مثل هذه اللقاءات بمثابة غرفة حوار عميق، وتتكشّف عن تبني نبرة خطاب مطمْئِنة وأكثر انفتاحاً من السابق. ---------------- باسكال بونيفاس* * مدير مركز العلاقات الدولية والاستراتيجية- باريس