إن الأمم، في فترات أزمتها، عليها أن تعود إلى تاريخها للبحث عما يعزز ثقتها بنفسها، ويعمق إيمانها بقدرتها على الصمود في مواجهة التحديات، ويبث في أبنائها الأمل في الحاضر والمستقبل، خاصة إذا كان هذا التاريخ حافلاً بالصفحات التي يحق لنا الفخر بها ونقل هذا الفخر إلى أبنائنا وأحفادنا الذين يتعرضون اليوم لأخطر حرب نفسية تشارك فيها جهات عدة، وبعضها عربي للأسف، تهدف إلى هز ثقتهم بأنفسهم وتاريخهم وقياداتهم ورموزهم في كل المجالات، من خلال سمومها التي تنفثها في عقولهم صباح مساء، حول تهافت العرب واستسلامهم لأعدائهم وعدم قدرتهم على تحقيق أي إنجازات حضارية تُذكر، والهدف هو سهولة السيطرة عليهم وتوجيههم للإضرار بأنفسهم وبأوطانهم. ومن هذه الزاوية أعود اليوم إلى قصة السد العالي، على الرغم من أن عشرات السنين قد مرت على بنائه، وينتمي إلى زمن غير الزمن، وسياق غير السياق، حيث يعدّ هذا السد الذي أقيم على نهر النيل في أسوان جنوب جمهورية مصر العربية، واكتمل بناؤه في منتصف يوليو 1970، حدثاً مفصلياً في التاريخ العربي الحديث، ليس فقط لأنه «أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين» أو لأن حجمه يقدّر بـ17 ضعفاً لحجم هرم خوفو، حتى أطلق عليه بحق اسم «الهرم الرابع»، وإنما، وهذا هو المهم من وجهة نظري، لأنه يحمل في طياته كل معاني ودروس التحدي والإرادة الصلبة وعدم الاستسلام أمام الضغوط أو التراجع أمام التحديات والظروف الصعبة، وأظن أننا ما كنا أحوج إلى استلهام هذه المعاني في العالم العربي أكثر مما نحن عليه الآن. تؤكد قصة بناء السد العالي أنه مهما كانت المؤامرات والضغوط الخارجية، فإنه يمكن مواجهتها والنجاح في إفشالها بقوة الإرادة والتصميم على الهدف، حتى لو وقفت وراء هذه الضغوط والمؤامرات قوى عظمى، وفي ذلك رسالة مهمة إلى كل الذين أصابهم الاستسلام والخَوَر أمام ما يقال حول مؤامرات لتفتيت المنطقة العربية وإعادة رسم خرائطها الجغرافية والسياسية والديمغرافية وتقسيم دولها ومجتمعاتها، واعتبارهم نجاح هذه المؤامرات قدَراً محتوماً لا فكاك منه ولا مهرب. في أي وقت وفي ظل أي ظروف يمكن الوقوف في وجه المؤامرات وإفشالها إذا توافرت إرادة الفعل وقيادة تمتلك شجاعة اتخاذ القرار، هذا ما حدث قبل أكثر من نصف قرن في قصة بناء السد العالي، وحدث في مارس 2015، تاريخ انطلاق عملية «عاصفة الحزم» في اليمن، التي تصدى فيها العرب، بقيادة المملكة العربية السعودية، بشجاعة لتهديد أمنهم القومي في الوقت الذي ظن فيه أصدقاؤهم قبل أعدائهم أنهم غير قادرين على المبادرة أو استخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحهم العليا. حينما يلتفّ الشعب في بلدٍ ما حول قيادته ويؤمن بهدف قومي تسعى هذه القيادة إلى تحقيقه، لا يمكن لأي قوة أن تمنع هذا البلد من تحقيق أهدافه وتحويلها إلى واقع، وهذا ما تجسده ملحمة بناء السد العالي بوضوح، لأن الشعب المصري وثق بجمال عبدالناصر والتفّ حوله، وكان مستعداً لتحمّل الصعاب معه، وكان هذا مصدر قوته وقوة مصر في هذه المعركة. كان السد العالي حلقة في سلسلة من الأحداث التي شهدتها جمهورية مصر العربية، بعد ثورة يوليو 1952، ووسَّعت شقة الخلاف بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن كانت بدايات العلاقات بين الجانبين بعد الثورة تبدو مبشِّرة وواعدة. بدأت هذه الأحداث مع «المعاهدة المركزية» عام 1955، التي عُرفت لاحقاً بـ«حلف بغداد» الذي ضم: العراق، وتركيا، وإيران، وباكستان، وبريطانيا، وقد رعتها الولايات المتحدة الأميركية وحاولت إجبار مصر على الدخول فيها من أجل مواجهة «الخطر الشيوعي»، لكن سعيها قوبل بالرفض من قبل القاهرة، وترتّب على ذلك رفض الولايات المتحدة الأميركية تزويد مصر بالسلاح الذي كانت بحاجة إليه، ما قاد القاهرة في سبتمبر 1955 إلى إبرام صفقة الأسلحة التشيكية التي قرّبت مصر من المعسكر الشرقي، ومثّلت محطة مهمة من محطات الحرب الباردة. ومع طرح فكرة إنشاء السد العالي كمشروع وطني كبير، لجأت مصر إلى البنك الدولي لتمويله، وبعد موافقة مبدئية من جانبه في ديسمبر 1955، عاد ورفض التمويل بعد سحب الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا موافقتهما على المشاركة في هذا التمويل، وانطوى الرفض الأميركي على إهانة لمصر على لسان وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت، جون فوستر دالاس، الذي أعلن أن اقتصاد مصر لا يتحمل مثل هذا المشروع، حيث استدعى السفير المصري في واشنطن وأبلغه بذلك، ووزعت الخارجية الأميركية مذكرة الرفض على وسائل الإعلام قبل أن تبلغها للقاهرة. هذا الرفض الغربي خلق تحدياً لدى القيادة المصرية دفعها إلى التصميم على إنجاز المشروع مهما كان الثمن، ومن ثم تم اللجوء إلى الاتحاد السوفييتي السابق، الذي قبل تقديم المساعدة، وكان ذلك بمنزلة ضربة للغرب، كما اتخذ جمال عبدالناصر قراره التاريخي بتأميم قناة السويس في عام 1956. ولاشك في أن رفض الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تمويل بناء السد العالي، كان خطأً استراتيجياً كبيراً، لأنهما لم تعيا بشكل كافٍ قوة الروح الوطنية المصرية في ذلك الوقت، ولم تقدّرا قدرة مصر على إيجاد بدائل وخيارات أخرى، ولم تعطيا الأهمية الكافية للقوة التي يمثلها التفاف الشعب المصري حول قيادته وموقع مشروع السد العالي في مخيلته العامة، وهذا ما أدى إلى خسارة المعسكر الغربي، في صراعه أو تنافسه مع المعسكر الشرقي، لإحدى أهم دول منطقة الشرق الأوسط. إن أهم درس يقدمه بناء السد العالي، هو درس الإرادة، حيث كانت إرادة جمال عبدالناصر ووقوف الشعب المصري خلفه وتصميمه على إنجاز مشروعه الوطني الكبير، هي الأساس في بناء السد العالي، قبل أي مقومات أو عوامل أخرى بما في ذلك مساعدة الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا ما أشار إليه جمال عبدالناصر في كلمته بمناسبة البدء بأعمال بناء السد في عام 1960 بقوله «إن السد العالي الذي نبدأ اليوم العمل فيه إنما هو حافز مستمر لكل الأمم في إفريقيا وآسيا، يذكّرها دائماً بأن الشعوب الصغيرة مهما تضاءل ما تملكه من معدات الدمار الذري، فإنها تستطيع أن تقوم دائماً بأعظم الأعمال الإنشائية، وتستطيع -لو اقتضى الأمر- أن تحفر طريقها بأظافرها ودمائها في وسط الصخور». ولعل الأمر نفسه حدث في مشروع حفر قناة السويس الجديدة في عهد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، حيث تحقق هذا المشروع في فترة قياسية وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، لأن إرادة سياسية قوية وقفت وراءه، ودعماً شعبياً جارفاً دفعه إلى الأمام وعبّر عن نفسه في جمع المصريين أكثر من 60 مليار جنيه مصري في نحو أسبوع لتمويل هذا المشروع. لقد كان بناء السد العالي صفحة مجيدة في كتاب الإرادة العربية، وما أحوجنا إلى تقليب المزيد من صفحات هذا الكتاب، حتى نحرر شبابنا من أسْر الذين لا يصدرون لهم إلا اليأس والإحباط.