انقلاب تركيا الإسلامية- العلمانية هذه المرة في 15 يوليو 2016، وبعد أربع تجارب عسكرية عبر تاريخها الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، انقلاب «معولم»، غامض الأسباب، متعدد الامتدادات، متشابك الأطراف، لم يبقَ قطاع في الدولة إلا وجدنا في أروقة مبانيه وغرفه وربما في سراديبه.. بعض الانقلابيين من أنصار «فتح الله غولن»! هل زيادة عدد المعتقلين، وهم في ازدياد كل يوم، تعزز مصداقية حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان، أم تعزز الشكوك في البواعث؟ الرئيس التركي يهاجم منتقدي إجراءاته التي نالت شرائح واسعة، وشملت العسكريين والمدنيين، والموظفين والإعلاميين، والقضاة ورجال الأعمال، مما يثير الكثير من الأسئلة لعلّ أبرزها كيف استطاع الانقلابيون في بلد يعيش عسكرياً وأمنياً منذ سنوات ظروفاً عصيبة بسبب الأكراد والتهديدات الإرهابية، أن «يأخذوا راحتهم»، في رسم مخطط بهذا الحجم، وأن يمتدوا هذا الامتداد، ويصلوا إلى سلاح الدبابات والطيران والجسور والقواعد العسكرية، ولا تعرف الأجهزة الأمنية التركية أي معلومات عنهم، ولا تشم أي رائحة؟ يقول الصحفي التركي «أرشد هورموزلو» إن الصحفيين في العالم العربي، كما في الدول الغربية قد لفت نظرهم «أن مواطنين من جميع أطياف الشعب التركي قد نزلوا إلى الشوارع والميادين وهم لا يحملون صور زعمائهم وقادتهم، بل أجمع الكل ومن دون تنسيق سبق على أن يحملوا العلم التركي فقط». (الحياة 20-07-2016). وهذا رائع بلا شك، ووطنية تركية لها كل التقدير من المراقبين من عرب ودوليين، ولكن القيادة التركية مدعوة إلى تطمين الجميع بأن الديموقراطية التركية كذلك كالوحدة الوطنية التركية بخير.. بموالاتها ومعارضتها ومؤسساتها. والمشكلة، أو ما يخيف كذلك في مجريات هذا «الانقلاب الفاشل» ما تردد عن قاعدة «إنجرليك» الاستراتيجية، التي تختزن خمسين رأساً نووية من النوع الثقيل التي إذا وقعت الواقعة تكون قادرة على جعل روسيا الاتحادية ومن يقف في وجه حلف «الناتو».. أثراً بعد عين! فماذا لو كانت الأمور قد أفلتت حقاً، وصارت كل قنبلة بيد؟! إن الرئيس أردوغان كما يبدو يحمل البندقية بيد وغصن الزيتون بيد أخرى! فهو بشير الديموقراطية والتحديث والتصنيع في تركيا، وهو في الوقت نفسه الباذل كل ما في وسعه من جهد لتجميع السلطات والمؤسسات ومفاتيح التحكم بيده وتحت سلطانه! والكل يعرف أن الديموقراطية تقوم على تعددية مواضع القوة وتنوع مصادر القرار، فكما قال آباء الديموقراطية الليبرالية «القوة مَفْسدة، والقوة المطلقة فساد مطلق». لا أعرف حجم وحقائق دور العسكر في هذا الانقلاب، ولكن هل مما يدعم مكانة الجيش التركي وضباطه أن يُجرجَروا هكذا أمام أجهزة الإعلام، دع عنك رجال القضاء والكُتاب وما جرى لهم؟ يقول الكاتب «زهير قصيباتي» في صحيفة «الحياة»: لقد حجّم حزب العدالة والتنمية الجنرالات ومعهم تراث أتاتورك، ولكن العجيب أن تكون تركيا الوحيدة من بين دول الناتو «التي تتغلب شرطتها ودَرَكها على قواتها المسلحة». (الحياة، 20-07-2016)، وهذه ملاحظة مدهشة وذات دلالة! معظم الكتاب لاحظوا القوة المفاجئة لحزب العدالة والتنمية ورئيسه، و«الثمرة الناضجة» التي وقعت في حضن الرئيس، ولكن هل ستكون لحسن حظ الأتراك «تفاحة نيوتن»؟ وهل ستنبهه إلى الاستفادة من هذا التطور في الارتقاء بالتجربة التركية، وبخاصة أن التحديات قد تضاعفت الآن في وجهها اقتصادياً وسياسياً؟ أم أن الرئيس يفهم من هذا التطور والتوافق «تفويضاً» بإطلاق اليد في تركيا؟ إن قوة تركيا وتميزها في العالم الإسلامي والشرق الأوسط تدين بالكثير منهما لنظامها الدستوري العلماني ونجاحاتها الاقتصادية وإقبال المستثمرين على أسواقها وتزايد صادراتها. ولعلّ مما يضاعف قوتها أن تعود من جديد إلى «سياسة تصفير المشاكل» التي تعاني منها مع جيرانها ومع الأحزاب والمؤسسات والحريات في الداخل، بعد أن تبين أن المعارضة نفسها في تركيا لا تريد إسقاط النظام بقدر ما تريد السلام والدوام للمكاسب الديموقراطية والازدهار الاقتصادي. ولا يتأتى هذا بتركيز السلطات بيد الرئيس ولا مضاعفة مركزية دور الدولة والحزب الحاكم. فقد كانت تركيا، كما يقول أحد المحللين العرب، تقترب من التأهل لدخول الاتحاد الأوروبي، وكان كل ما يقف بينها وبين دخول الاتحاد قضايا تخص قيم المجتمع التركي وملف حقوق الإنسان. أما اليوم وقد حدث الانقلاب فقد عادت رؤية الغرب لعلاقة الجيش بالدولة أو العلاقات العسكرية المدنية إلى نقطة الصفر. (الشرق الأوسط: 18-07-2016). إن الانقسام الحاد بين اثنين من زعماء الإسلام السياسي في تركيا، الرئيس أردوغان والداعية «فتح الله غولن» واستمرار إعلام «العدالة والتنمية» في التركيز على «الدور الانقلابي والتآمري» لفتح الله غولن وجماعته ودولته العميقة الموازية كما قيل، يثبت من جديد أن علمانية أتاتورك هي الحل!