يمكن القول إن الغرب عموماً، لم يشهد منذ عدة عقود صعوداً سريعاً لنجم رجل مثلما حدث لدونالد ترامب. ويمثل هجومه اللاذع على أبوي النقيب «هيومايان خان» الذي قضى نحبه أثناء أداء واجبه العسكري في العراق عام 2004، أحدث حلقة في سلسلة السقوط الأخلاقي لحملته الانتخابية الرئاسية. وفيما يسير الآن مترنحاً باتجاه هزيمته الصاخبة في نوفمبر، ينبغي علينا أن نعترف له بـ«مآثر» صنعها عن غير قصد عندما أعلن عن نواياه الخبيثة المبيّتة. وتكمن أولاها في تهجمه الذي ينضح بالعنصرية والتطرف على المسلمين، حيث وصف الرهاب الإسلامي أو «الإسلاموفوبيا» على أنه يمثل ظاهرة تعشش في مجتمعاتنا. وكانت هذه الإيماءة غريبة إلى الحد الذي دفع ببعض كبار المحللين والسياسيين إلى رفض الفكرة القائلة بأن التحيّز ضد المسلمين انفجر في أعقاب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية. ولم يكن الكاتب «سام هاريس» وحده هو الذي صرخ بأعلى صوته قائلاً: «ليس ثمة من شيء اسمه الإسلاموفوبيا». وكانت حالات أكثر بشاعة من التجاهل المتحيّز والعدائي للمسلمين يتم تداولها تحت عنوان «نقد وإصلاح الإسلام». وجاء اقتراح ترامب بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة نتيجة لهذا الجوّ المشحون بالتحيّز والتعصب. ويدفعنا هذا النجاح المثير للقلق لحملته الانتخابية التحضيرية إلى النظر المعمّق في الشيء الذي يجعل كل من يحمل اسماً مسلماً أو كل من كان ذا بشرة داكنة، مسؤولاً عن الجرائم التي ترتكبها قلّة من المتعصبين. كما أن التطرف والشعبوية التي تكمن في خطاب ترامب المتعلق برهاب الأجانب «الإكزينوفوبيا» يفتح الباب أمام عودة ظاهرة صراع الحضارات. وكما هي حال كل الديماغوجيين، فقد فكّر ترامب في إعادة بناء وحدة «شريحته» عن طريق تحديد أعدائها المسلمين والمكسيكيين والمهاجرين بشكل عام. وعلينا أن نتذكر أن مثل هذا التشهير بالأبرياء كان يُمارس منذ بداية نشوء المجموعات البشرية عندما كانت الشعوب التي تفتقد للحس التضامني تجد ضالتها المنشودة بشكل دائم في اختلاق عدو داخلي أو خارجي لتعمل على شيطنته. ويبدو أن العصر الحديث لم يتخلَّ عن هذا النموذج الظالم للعنف والتطرف. ففي القرن التاسع عشر، عندما ظهرت الرأسمالية العالمية والاقتصاد الصناعي إلى حيز الوجود، أصبح «اليهودي» هو كبش الفداء بالنسبة لكثيرين في الغرب ممن شعروا بصدمة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة، والتي لا يمكن التحكم فيها ويصعب التأقلم معها. وكان ديماغوجي إثر الآخر يظهرون في أوروبا ليلصقوا باليهود وصمة عبادة المال، ويصفوهم بأنهم يشكلون الطابور الخامس، وأنهم هم وحدهم الذين يقودون حلقات التآمر على العالم. وكُتب لبعض هؤلاء الدعاة أن يحققوا نجاحاً مدهشاً في إقناع أعداد كبيرة من الأوروبيين الذين يعانون من لوثة التشوِش الذهني بأن الاستقرار والسلام الاجتماعي لن يتحقق إلا بالقضاء على اليهود بسبب استحالة دمجهم، وأيضاً بسبب الفوارق البيولوجية القائمة بينهم وبين الشعوب التي تأويهم. واليوم، فتحت ظواهر مثل الفشل السياسي والأزمات الاقتصادية نافذة ذرائع جديدة أمام السياسات والنزعات القومية في أوروبا وأميركا، وأيضاً في آسيا وأفريقيا. وعادت فكرة البحث عن كباش الفداء، للانتعاش من جديد في قلب دول الغرب العلمانية حتى بعد أن تخطّت عصر الحداثة. ووجدت ضحاياها المفضلين في المسلمين والمهاجرين! وعندما طلب والدا «خان» من ترامب أن يعيد قراءة الدستور الأميركي خلال انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري، كانا يعبران عن احتجاجهما على العزلة التي يعيشانها في وطن ضحّى ابنهما بحياته من أجله. وكان في وسع ترامب أن يتجاهلهما، ولكنه قرر التهجم عليهما بسبب خلفياتهما الدينية الإسلامية التي تثير لديه الكثير من الشكوك! وقد بقي أسلوب البحث عن كباش الفداء يعمل بنجاح لعدة قرون. وسمح لبعض المجموعات البشرية بالتنفيس عن الاحتقان الذاتي الذي تشعر به لمجرد أن بعض البشر اعتاد على الاقتناع بالذنب الذي يتحمله ضحاياه. وكان الشعور المتعصب للاسامية في فرنسا شائعاً في عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر إلى الدرجة التي لم تبرئ «ألفريد دريفوس»، وهو نقيب يهودي في الجيش الفرنسي، من تهمة الخيانة العظمى لمجرد كونه يهودياً. وجاء هذا الحكم الظالم على شخص بريء لاسترضاء الديماغوجيين الذين أقنعوا أنفسهم بأن كل اليهود خونة. وفي النهاية، تمت تبرئة ساحة النقيب «دريفوس». وأما النقيب «خان»، من جهة أخرى، فقد ضحى بحياته من أجل بلده، وسيبقى هجوم ترامب على أبويه المكلومين محفوظاً في ذاكرتهما من أن ابنهما الشاب مات في حرب كارثية لا مبرر لها. ولا شك أن ترامب سيواصل هجومه الظالم على الأبرياء، ولكن عليه أيضاً أن يتنبه إلى موجة السخط التي تتفاعل الآن ضد أطروحاته بعد أن اختلق «الإسلاموفوبيا» باعتبارها حقيقة لا يمكن إنكارها. وبسبب كشفه الفاضح لحقيقته، فإنه يستحق منا كل الشكر. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»