ما الذي يدفع الأشخاص الذين يلتحقون بالتنظيمات الإرهابية إلى التكني بأسماء غير مألوفة في هذا الوقت، كأبي دجانة الشامي، وأبي قتيبة الجزراوي؟! إذا كان قصدهم التخفي والتمويه فدونهما آلاف الأسماء المتداولة حالياً، فلمَ العودة إلى أسماء القرون الأولى من الإسلام؟! وفي اللباس والهيئة، يلقون عنهم الثياب التي ألفوها ويرتدون ثياب الأفغان، لا إعجاباً بالثقافة الأفغانية وإنما لاعتقادهم بأنها الأقرب إلى لباس المسلمين الأوائل، وهكذا في إطالة شعر رؤوسهم وإطلاق لحاهم، يحاولون أن يتشبهوا بالأجيال الأولى من المسلمين كما يوصفون في كتب التاريخ ويتم تصويرهم في مسلسلاته. أما أفكارهم فهي قائمة على رفض أي مفهوم لم يكن موجوداً آنذاك، كالدولة الوطنية، وحقوق الإنسان بصبغتها الحالية، والمعاملات البنكية.. إلخ. وهكذا بالنسبة إلى اللغة المفضلة لديهم، العربية الفصحى بتراكيبها القديمة، كاستئصال الشأفة بدلاً من الإبادة، والإثخان بدلاً من الإضعاف، وولاية بدلاً من محافظة، وأمراء بدلاً من رؤساء، مع ملاحظة أن استخدام تلك الكلمات قد يكون من مظاهر الاعتزاز باللغة أو لاعتبارات شرعية، لكن حين يتفوّه بها أبوالقعقاع القيرواني الذي يضع على رأسه عمامة فإنه يؤكد انفصاله عن الواقع. وقد قيل الكثير حول عوامل الجذب لتلك التنظيمات الإرهابية، منها حلم إقامة المجتمع الإسلامي المثالي، وهو كما يصوّره هؤلاء مجتمع الإسلام الأول، مضافاً إليه بعض الأحداث المنفردة التي وقعت خلال السنين الطويلة من عمر الخلافة، كحادثة استنجاد المرأة بالمعتصم، ومعارك صلاح الدين الأيوبي، وحادثة رفض السلطان عبدالحميد الثاني التنازل عن فلسطين لليهود. تشكّل هذه الفترات والأحداث شريطاً سينمائياً يمكن أن نطلق عليه اسم «مجتمع الإسلام الحقيقي»، ويحلم الكثيرون بتحقيق هذا المجتمع، سواء من يبادرون إلى تحقيقه بالعنف كأبي قتيبة وإخوانه، أو من يوفرون له ظروف تحقيقه من خلال المحاضرات الدينية والفنون والآداب، أو الذين يكتفون بالتمني على الزمن أن يحقق لهم حلمهم الجميل بالمشي في الأزقة الترابية بسراويل واسعة. ورغم أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، فإن هذا الشريط السينمائي لا يتوقف عن الدوران، فهو أولاً يرسم صورة ناصعة عن ذلك المجتمع الفريد من نوعه الذي ليس له مثيل في طول التاريخ وعرضه، ومهما عاش الحالم في مجتمع سعيد فإنه يشعر بالتعاسة حين يقارنه بذلك المجتمع الملائكي، خصوصاً مع دخول السينما والتليفزيون على الخط ونقل ما هو موجود في بعض كتب التاريخ إلى الشاشة، فصار الحالم يرى نفسه على التليفزيون، ممتطياً ظهر جواده وقاطعاً آلاف الأميال لإيصال رسالة سريّة لأمير المؤمنين في قصره في بغداد. كما أن قوانين بعض الدول تمنع الاقتراب من ذلك المجتمع الحلم، من خلال نصوص عقابية فضفاضة لا تفرّق بين دراسة ذلك المجتمع وتحليل شخصياته وتفسير أحداثه بشكل علمي رصين، وبين التعرّض له بالنقد المغرض الذي يرمي إلى التشويه والإساءة. لو كان أبوقتيبة يعلم أن المجتمع المثالي لا وجود له بالشكل الذي يتصوّره على الأقل، ويعلم أنه حتى لو وُجد يوماً فإنه لن يعود، لربما بقي محتفظاً باسمه، يربي عياله ويحاول تحسين مجتمعه ليكون مجتمع القرن الحادي والعشرين.