أيُّ العامليْن يحسم الخلاف حول القضايا الدولية المتنازع عليها: الحق التاريخي أم القانون الدولي؟ تعتبر الصين أن بحر الصين حق تاريخي لها. وأن هذا الحق سابق للنظام العالمي.. وسابق تالياً لقيام المحكمة الدولية. وبموجب إيمانها بهذه النظرية وتمسكها بها، فإنها تسيطر الآن على كل المنطقة البحرية الممتدة من شمال مجموعة جزر بارسيل المواجهة لفيتنام، إلى جنوب مجموعة جزر سبارتلي المواجهة للفلبين وماليزيا. وتمتد هذه المنطقة البحرية على طول 1500 كيلومتر. ويمر عبرها نحو ثُلث التجارة العالمية. ثم إنها غنية بالنفظ والغاز.. إضافة إلى ثروتها السمكية. جرت محاولة لحل الخلاف مع الصين حول السيادة على هذه المنطقة الغنية، بالقوة. اتخذت المبادرة فيتنام التي بادرت إلى الدفاع عما تعتبره مياهها الإقليمية بواسطة زوارقها العسكرية. وقع الصدام الأول بين الجانبين في عام 1974، ثم في عام 1988، ثم في عام 2011. وفي المرات الثلاث كان التفوق للأسطول الصيني الذي أغرق الزوارق الفيتنامية. ثم جرت محاولة لحل الخلاف دبلوماسياً. واتخذت المبادرة هذه المرة الفلبين. وذلك بعد أن كشفت منشآت عسكرية صينية فوق بعض جزر سبارتلي في خليج «ميستشيف». ولكن الصين لم تتجاوب مع تلك المحاولة تمسكاً منها بما تعتقد أنه حق تاريخي لها. ولتأكيد هذا الحق دولياً أرسلت بكين خريطة إلى الأمم المتحدة في عام 2009 تُعرف باسم خريطة النقاط التسع. وهي النقاط التي تحدد حدودها البحرية في بحر الصين. ولكن المنظمة الدولية لم تقرّ هذه الخريطة، ولم ترفضها، وإنما اكتفت بأخذ العلم بانتظار تسوية قانونية دولية. وفي عام 2012 كادت تنشب حرب شاملة بين الصين والفلبين في خليج سكاربورو المتنازع عليه، والذي يعتبر واحداً من أهم مصادر الثروة السمكية في المنطقة. ولكن التفوق العسكري الصيني حمل الفلبين على التراجع، ومن ثمّ على رفع دعوى أمام المحكمة الدولية -في لاهاي- في عام 2013. قاطعت الصين المحكمة، واعتبرت أنه ليس من حق هذه المحكمة أو غيرها النظر في قضية سيادية تتعلق بحق تاريخي للصين. وبعد مرور ثلاث سنوات، أصدرت المحكمة الدولية في يوليو الماضي حكمها حول ما اعتبرته حقوق الدول المجاورة لمجموعات جزر سبارتلي وباراسيل في السيادة المشتركة على بحر الصين. هللت الفلبين لصدور الحكم واعتبرته انتصاراً لها. ولكن هذا الانتصار غير قابل للترجمة، لأن الصين أعلنت أنها لا تعترف بالمحكمة الدولية ولا بصلاحياتها ولا بحقها في النظر في قضية صينية «داخلية»! يشكل هذا الواقع السياسي- العسكري المتأزم إحراجاً للولايات المتحدة. فهي من جهة أولى لا تريد إغضاب الصين شريكتها الاقتصادية الأولى في آسيا. وهي تحرص على استرضائها حتى لا تدفعها إلى التحالف مع كوريا الشمالية والاتحاد الروسي. ومن جهة ثانية فإن كل الدول التي تطالب بالشراكة على السيادة في بحر الصين هي دول صديقة أو حليفة لواشنطن. ثم إن الولايات المتحدة -ولو من حيث المبدأ- لا تستطيع أن تدير ظهرها لحكم يصدر عن المحكمة الدولية، وإلا فإن كل دولة ستبادر إلى اللجوء إلى منطق «الحق التاريخي» في أي صراع على الحدود مع أي دولة أخرى، الأمر الذي يربك النظام الدولي! وقرار المحكمة يقدم مبدأ «الحق الدولي» على نظرية «الحق التاريخي»، بشكل واضح.