أخيراً وقّعت مصر، يوم الخميس الماضي 11 أغسطس، الاتفاق المنتظر مع صندوق النقد الدولي. وقد أصبحت مثل هذه الاتفاقات ظاهرة عامة أكثر منها مجرد اتفاق منفرد بين الصندوق ودولة محددة، حتى ولو كانت دولة محورية مثل مصر في منطقة حساسة مثل المنطقة العربية وما يدور فيها حالياً. اللجوء لصندوق «النقد» أصبح ظاهرة متكررة، ومعظم دول «الجنوب»، باستثناءات قليلة، تضطر لطلب الإنقاذ، سواء بسبب صدمات خارجية تهز اقتصادها، أو بسبب سوء سياسات اقتصادية قد تؤدي إلى الإفلاس. النقطة المهمة التي يجب التأكيد عليها هي أن هذه الدول تلجأ للصندوق وهي في حالة سيئة، مثل المدمن الذي لا يستطيع وقف إدمانه، كما أنه في موقف تفاوضي ضعيف، ومضطر أحياناً للقبول بشروط المقرضين. من هنا اكتسب صندوق «النقد» سمعته السيئة في عدم التسامح وفرض الشروط، لكن كما قال لي أحد كبار موظفي الصندوق، فإن القليلين لا يأخذون بالحسبان مسؤولية المقترض وسوء سياساته التي أدت به إلى الموقف الصعب الذي يتطلب تغييره هذه السياسات لكي يخرج من العناية المركزة والعودة إلى الحياة، أي تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي. وعودة لحالة مصر التي يزداد موقفها الاقتصادي سوءاً، أكثر بكثير مما كان عليه قبل أربع سنوات عندما حاولت اقتراض 3 مليارات دولار، أي ربع المبلغ المتفق عليه حالياً. قصة الجنيه المصري الذي فقد نحو 55% من قيمته في مواجهة الدولار خلال أقل من أربع أعوام، قصة معروفة. وقد يفقد الجنيه أكثر من ذلك في ظل الإصلاح، ولو مؤقتاً. لأن الاتفاق مع الصندوق يتطلب «إضفاء المرونة على العملة المصرية»، أي تعويم الجنيه. كما أن الدين الخارجي البالغ 53 مليار دولار، والدين الداخلي البالغ 253 مليار دولار (2.25 تريليون جنيه مصري)، يمثل نحو 98% من الناتج المحلي الإجمالي، وتمثل فوائده نحو 30% من الإنفاق العام. هذا بينما تبلغ الواردات أكثر من ضعف الصادرات المصرية، ما يعني عجزاً متزايداً في الميزان التجاري. نستطيع الاستمرار في سرد مؤشرات التدهور الاقتصادي، لكن القصة واضحة الآن. لقد أدمنت الحكومة المسكنات حتى تحولت المشكلات إلى أزمات. مثلاً بين التفكير في القرض الأول (الصغير نسبياً)، والقرض الحالي، اعتمدت مصر على مساعدة الأشقاء في الخليج، والتي بلغت خلال الأعوام الأخيرة الماضية 29.5 مليار دولار. لكن ليس هناك معلومات واضحة عن كيفية صرف هذه المساعدات، مما يحاول الصندوق تجنبه بمراعاة الشفافية وضمان تطبيق بنود الاتفاق عبر ربط صرف شرائح نصف سنوية مرتبطة بتطبيق عناصر الإصلاح المختلفة، وأولها محاولة تخفيض عجز الموازنة العامة من 79% من إجمالي الناتج المحلي إلى نحو 48% خلال العامين القادمين. توقع الكثيرون أن تأخذ المفاوضات وقتاً أطول، لكنها تمت بسرعة، لأن الحكومة أعدت فعلاً برنامج الإصلاح قبل أن تلتقي رسمياً بوفد الصندوق، بل اتخذت إجراءات صعبة؛ مثل زيادة الضرائب وإضافة ضريبة القيمة المضافة، وتخفيض الدعم على الكهرباء، وعدم التدخل السريع لمساندة الجنيه، بل الاتجاه لتعويمه. هذا جزء من الدواء المر الذي سيزداد في الفترة القادمة لضمان تطبيق الاتفاق. ورغم تصريح الصندوق حول تجنب المزيد من المعاناة لمحدودي الدخل، فإن هؤلاء قد يعانون أكثر وأكثر مع ارتفاع الأسعار وقلة الدعم. تقول التقديرات إن أكثر من 80% من بنود الاتفاقات الموقعة بين صندوق النقد دول مختلفة، لم يجر تطبيقها، لأن الدواء كان مراً أكثر من اللازم. ربما تعلم الصندوق من تجاربه السابقة، علّ الدواء يكون أقل مرارة وأكثر نجاحاً هذه المرة.