صراع «فتح الله غولن» و«رجب طيب أردوغان» على السلطة، وكلاهما إسلامي وتركي قح، إلى درجة استباحة الدم الحرام، يقترب من معادلة رياضية متعددة المجاهيل! فكيف يقدم صوفي عميق الإيمان من أتباع سعيد النورسي، صاحب المدرسة المعروفة بنهجها السلامي، على تدبير انقلاب دموي؟ سؤال لم أجد له جواباً حتى الآن. وتحضرني في هذا التنافس الدموي ثلاثة أمثلة قد تعين على الفهم. الأول من كتاب «روبرت جرين» حول مفاهيم القوة في كتابه «القوة»، حيث ينقل عن نابليون أن أخطر الساعات في السلطة هي لحظة الانتصار، وعلى هذه النقطة استند المخرج العقاد على لحظة الذروة، ومنها يعرف وقت الغروب باعتباره لحظة الذروة في وداع الشمس. وقد أقسم القرآن بالشفق واليل وما وسق. ومن هذا يتضح أن أخطر ما يهدد أردوغان حالياً هو الاعتقاد أن الأمة التركية تخرج مرة واحدة قائداً أبدياً لا يتكرر! ليس أخطر على الإنسان من ذاته، ومنه أقسم القرآن بيوم القيامة والنفس اللوامة. أما المفتاح الثاني لفهم صراع أردوغان وغولن، فهو ما رأيته من الكراهية والتنابز بالألقاب بين «الإخوان المسلمين» و«حزب التحرير الإسلامي»، وهذا المرض نادراً ما ينجو منه أحد. الحساسية الموجودة بين أتباع حسن البنا (الإخوان المسلمون) وأتباع تقي الدين النبهاني المقدسي (حزب التحرير الإسلامي)، ليست خلافاً في وجهات النظر، بل رؤية كل واحد للآخر على أنه عميل لبريطانيا. ونظراً لأن عقيدة «حزب التحرير» تقوم على جدلية ثنائية صارمة بين الحق والباطل، فهم يفسرون أي صراع على أنه صراع بريطاني أميركي، لذلك يفسر تقي الدين (وهو أحد أبناء مدينة القدس)، مؤسس الحزب، خسارة فلسطين بالقول إن بريطانيا كانت في صراع مع الابن البكر (أميركا) حول السيطرة على العالم في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. لقد كتب البوطي أيضاً في التحذير من خطر «حزب التحرير» في مقالة مشهورة بمجلة «الحضارة الإسلامية». المهم مقدار الكراهية والتخوين والحساسية بين ذينك التيارين الإسلاميين، والذي يصعب فهمه إلا في ظروف المرض الحزبي الضار، مثل طبيعة الأمراض، وكيف تتولد بعضها من بعض. وأعتقد أنه لو قُدِّر لأحد الفصيلين أن يصل إلى السلطة ويمسك بمفاتيح القوة، فسوف نرى مشهد أردوغان وغولن بأسماء مختلفة. وهذا يقودنا إلى المفتاح الثالث والأخطر والأشد حساسية إلى درجة أن أحد الكتاب المرموقين انبرى لهذه المسألة، فكتب «العواصم من القواصم»، في محاولة لفهم الخلاف الذي نشب بين الصحابة مشبهاً إياه بمخطط القلب الكهربي. إنه لم يقل هذا، لكنه تنزيل طبي من عندي، ومعنى ذلك أنه لا تحدث كارثة إلا وتعقبها نعمة تزيل آثار الكارثة، فكانت عاصمة من القاصمة بتعبيره، لكن هذا الجرد التاريخي يحتاج إلى علوم مساعدة لفهم الظاهرة، مثل فلسفة التاريخ وعلم النفس الاجتماعي. وقد يقود ذلك إلى تأسيس فلسفة انشقاق الجماعات وتنافرها، كما في بروتونات الذرة، أو صراعها الدموي كما يجري حالياً بين الجماعات الشيعية والسنية، وكما جرى يوماً على الأرض الألمانية بين البروتستانت والكاثوليك وكلّف حرباً امتدت ثلاثين عاماً (1618 -1648)، وهو ما يتنبأ به كيسنجر حالياً في الشرق الأوسط المنكوب بجنون الحروب والمذاهب، متوقعاً حرب المئة عام في العالم الإسلامي.