السفن الضخمة تكسر هدأة الليل بأبواقها الصاخبة وهي تعبر مضيق البوسفور محملة بالبضائع نحو البحر الأبيض المتوسط، والمراكب الصغيرة التي تحمل مئات السائحين تتهادى مع الأغاني التركية، متنقلةً بين الموانئ والجزر التركية. حركة السوق لا تهدأ، والأسواق تعج بالسائحين والبائعين النشطين الذي يقدمون أطيب الأطعمة والحلويات للناس. بعد عشرة أيام من محاولة الانقلاب الفاشلة في ذلك البلد كنت في إسطنبول، ولم أشاهد أية مظاهر عسكرية سوى سيارة وحيدة متوقفة أمام مركز للشرطة. وفيما عدا ذلك، فالمطاعم والفنادق، والمولات الضخمة، والمقاهي المختلفة.. تعجّ بالناس! تساءلتُ: هل فعلاً هذه بلاد تعرضت لمحاولة انقلاب؟ وما سيكون قد حلَّ بهذه البلاد فيما لو نجح الانقلاب، وانشق المجتمع التركي بين مؤيد ومعارض، وعاد رجل الدين المعارض «فتح الله غولن» من منفاه في بنسلفانيا وقاد البلاد؟ لو حدث ذلك لكان «غولن» قد حوّلها إلى إيران ثانية! وربما أيضاً كانت ستتحول إلى سوريا ثانية، فيتدفق شعبها (76 مليون نسمة) إلى بلدان أوروبا المجاورة! تصوروا ماذا سيحدث في العالم، وهل سترضى أميركا وحلف الناتو بتلك الدولة الدينية المتزمتة؟ تركيا دولة مؤسسات، وأحزاب المعارضة فيها رفضت الانقلاب منذ بدايته، وأكدت تأييدها للحكومة المُنتخبة ديموقراطياً، وهذا يُدلل على أهمية دور المؤسسات في استقرار الحكم. كان للهاتف المحمول الذي ظهرت فيه صورة الرئيس رجب طيب أردوغان على شاشة التلفزيون مهمة حيوية في طمأنة الشعب الذي تجاوب مع دعوة الرئيس للنزول إلى الشارع، واستقباله في المطار. اليوم، هناك بعض التحديات التي يراها المراقبون حيوية بالنسبة لمستقبل تركيا، ومنها: 1- الإسراع في وضع الدستور الجديد، خاصة أن الموقف الذي وقفته أحزاب المعارضة سيساهم في إيجاد مناخ ملائم لتمرير الدستور والنظام الرئاسي. 2- إعادة هيكلة الجيش، خصوصاً في ظل التوقيفات الواسعة لضباطه وأفراده، مع ضرورة تحديث المؤسسات القضائية. 3- الدور المستقبلي لقاعدة «إنجرليك» في التحركات العسكرية الأميركية، في ظل «برود» العلاقات بين أنقرة وواشنطن. 4- الضغوط الأوروبية على أردوغان بسبب «انتهاكه روح الديموقراطية» وعدم الاكتراث لمعارضيه. 5- احتضان تركيا نحو 3 ملايين لاجئ سوري، مشكلةً بذلك منطقة عازلة لمنع تدفق اللاجئين إلى أوروبا عبر بحر «إيجة». 6- اقتصادياً، تشكل تركيا أهم نقطة لعبور الغاز والنفط عبر البحر الأسود من إيران والعراق، لذلك يتوجس الأوروبيون من زيارة أردوغان لروسيا مؤخراً. 7- كانت عينا أردوغان على روسيا، حيث حلَّ في سانت بطرسبرغ والتقى في 9 أغسطس 2016 الرئيس بوتين الذي أكد له أن «الأولوية تتركز على العودة لمستوى التعاون قبل الأزمة»، أزمة حادثة إسقاط تركيا طائرة عسكرية روسية على الحدود السورية. 8- وأخيراً يبدو أن أردوغان أراد فتح صفحة جديدة مع موسكو، في الوقت الذي برز فيه توتر واضح في العلاقات التركية الأميركية بعد فشل المحاولة الانقلابية، حيث شعر الجانب التركي بوجون «تمنٍّ» أميركي بنجاح الانقلاب، وزاد في الموقف طلب الرئيس التركي تسليم «غولن» المقيم في الولايات المتحدة، والذي يعتبره العقل المدبر لمحاولة الانقلاب، عبر جماعة «خدمة» التي يقودها، ويزيد توتر العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة اختلافهما حول معالجة الأوضاع في سوريا، حيث تركز الولايات المتحدة على محاصرة «داعش» فقط، دون أي إسهام في إسقاط نظام بشار الأسد الذي خالف كل الأعراف الدولية والإنسانية بحق شعبه. فكيف ستبدو صورة تركيا بعد فشل الانقلاب وتثبيت أقدام أردوغان وحزبه في سدة الحكم؟ هل فعلاً ستكون صورة جديدة، سوف ينتج عنها مزيد من التقارب مع الاتحاد الأوروبي؟ أم أن الإجراءات القضائية بحق مخططي ومنفذي الانقلاب ستباعد الشقة بين الطرفين، وبين تركيا والولايات المتحدة أيضاً؟ وهل سيظهر حلف روسي تركي على الخريطة السياسية؟ أسئلة قد تجيب عليها الأسابيع والأشهر القادمة.