ثلاثة مفاهيم رئيسية تلخص النهضة بالبحث العلمي التي حققتها ثورة 23 يوليو 1952 وهي الخريطة الاجتماعية والمدارس الاقتصادية والتوجهات الاستراتيجية. وتبدو الأهمية القصوى لكل مفهوم من هذه المفاهيم إلى أنها مجتمعة تمثل هو أي نهضة حضارية مكتملة كما سيتبين من شرحنا لها. ويمكن القول إنه لا يمكن تطبيق أي خطة تنموية من دون التعرف الدقيق على تضاريس الخريطة الاجتماعية لمجتمع ما. وفي هذا المجال لدينا صراع تاريخي بين مدرستين علميتين الأولى هي مدرسة «التوازن» التي تعبر عن التوجهات المحافظة التي تسعى إلى الإبقاء على الوضع الاجتماعي الراهن في مجتمع ما حتى لو كان ظالماً اجتماعياً بحكم هيمنة فئة طبقية قليلة العدد على مجمل ثروات البلاد مما يؤدي إلى سحق الطبقات الفقيرة والوسطى، والثانية هي مدرسة «الصراع»، والتي ترى ضرورة قصوى للتغيير الجذري لبنية المجتمع لتصحيح ظاهرة الانحراف الطبقي إن صح التعبير. وقد واجه جيلي من شباب الباحثين الذين عينوا باحثين مساعدين في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عامي 1956 و1957 من القرن الماضي مشكلة الاختيار بين إحدى المدرستين حتى يكون هذا الاختيار هو البوصلة التي ستحدد اتجاهات البحوث التي سنجريها لرسم خريطة المجتمع المصري. كان اختيار جيلي من الباحثين الشباب لمدرسة «الصراع» منطقياً لأن التاريخ الاجتماعي المصري شهد في الفترة شبه الليبرالية -بحكم الاحتلال الإنجليزي- مشكلتين هما المشكلة الاجتماعية والتي تتمثل في الفجوة الطبقية الكبرى بين من يملكون ومن لا يملكون في ريف مصر وحضرها، والمشكلة الوطنية وتعني إجلاء قوات الاحتلال الإنجليزية من أرض مصر. وهكذا تشابهت إرادة النخبة السياسية لثورة 23 يوليو في ضرورة تصحيح ظاهرة الانحراف الطبقي من خلال إصدار قوانين للإصلاح الزراعي، وترقية أحوال الطبقة العاملة وفك الحصار عن الطبقة الوسطى مع التوجهات العلمية لنخبة شباب الباحثين في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية والذين انطلقوا من نظرية «الصراع» لتوجيه بحوثهم العلمية. ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن مؤسس المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية هو أستاذنا الجليل الراحل الدكتور «أحمد محمد خليفة» والذي كان من رجال القضاء ثم أصبح عالماً اجتماعياً فذاً أنشأ أول مركز علمي متكامل للبحوث الاجتماعية بالمعنى الواسع للكلمة، كما ابتدع ببصيرة نافذة صيغة الفرق العلمية متعددة الاختصاصات. وقد بنى سياسة المركز العلمية على أساس الدراسة الجزئية لمجموعة من الظواهر الاجتماعية المنحرفة وهي «تعاطي المخدرات» و«البغاء» و«السرقة عن الأحداث»، وتولى رئاسة فرق البحوث الثلاث كبار العلماء الاجتماعيين وهم على التوالي الدكتور «مصطفى زيور» والدكتور «حسن الساعاتي» والدكتور «عبد العزيز القوصي». وأدرك الدكتور «خليفة» مبكراً أن الدراسات الاجتماعية الجزئية لا تغني عن رسم خريطة اجتماعية كلية للمجتمع، وهكذا صمم مشروعاً كبيراً عن «المسح الاجتماعي للمجتمع المصري» لبحث الأنساق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة. ومن الجدير بالذكر أن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بقيادة الدكتور «نسرين البغدادي» قرر تجديد هذا «المسح الاجتماعي» الفريد وخرج منه حتى الآن مجلدان الأول عن «الصحة» والثاني عن «الإعلام». ويمكن القول إن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أصبح هو المركز العربي الرائد، وقد تأثرت بنموذجه العلمي وأبحاثه الأصيلة دول عربية شتى في مقدمتها العراق وسوريا والكويت واليمن. ومازال المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية يقوم بدوره العلمي المتكامل في دراسة الظواهر الاجتماعية، ويشهد على ذلك بحوثه المنشورة، ومؤتمراته السنوية وبحوثه العلمية التي تنشر أساساً في «المجلة الجنائية القومية» و«المجلة الاجتماعية القومية» بالإضافة إلى الكتب التي يصدرها. وإذا انتقلنا من المجتمع إلى الاقتصاد فيمكن القول إن ثورة يوليو أقامت أهم مركز بحثي اقتصادي في العالم العربي وهو معهد «التخطيط القومي» الذي أسسه أستاذنا الراحل أستاذ الفلك الدكتور «إبراهيم حلمي عبد الرحمن» الذي استطاع عبر جهود علمية فذة إقامة قاعدة علمية بحثية اقتصادية ضمت عشرات من علماء الاقتصاد والتخطيط البارزين الذين لم يسهموا فقط في إعداد الخطط الخمسية الأولى والثانية في مصر، ولكنهم أسهموا في الارتفاع بمستوى البحوث الاقتصادية في العالم العربي من خلال عمل بعضهم في معاهد التخطيط العربية وأبرزها «معهد التخطيط الكويتي» الذي أسهم في بحوثه عشرات من خبراء معهد التخطيط القومي. وقد أجرى هذا المعهد الفريد بأجياله المختلفة عشرات البحوث المهمة، كما أنه أصدر في السنوات الأخيرة تقارير بالغة الأهمية عن «التنمية البشرية» في مصر أصبحت أساساً لعمليات التخطيط الاقتصادي. وفي مجال الأبحاث الاستراتيجية قام أستاذنا الراحل «محمد حسنين هيكل» بتأسيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والتي قمت بإدارته عام 1975 وأصدر التقرير الاستراتيجي العربي الذي تحول ليصبح أهم مرجع استراتيجي عربي.