كثرت الدراسات والمقالات عن قرب سقوط «دولة» تنظيم «داعش» الإرهابية إثر ظهور تصدعات خطيرة تطال بنيانها الداخلي، الأمر الذي انعكس بصورة جلية في أنماط ممارساتها في المناطق الخاضعة لسيطرتها وفي الخارج أيضاً، فقد باتت هذا التنظيم يجد صعوبة في الاحتفاظ بسيطرته على سكان يزداد عداؤهم لها يوماً بعد آخر، لاسيما مع اتباعه سياسة موغلة في الوحشية واتخاذه المدنيين دروعاً بشرية أثناء المعارك، وحسب التقارير والتصريحات، ربما يكون «داعش» قد فقد قرابة نصف الأراضي الخاضعة لسيطرتها في العراق وسوريا، وفقاً لما أكده «بيتر كوك» الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية «البنتاجون»، والذي أعلن أن «داعش» فقد زهاء 45% من الأراضي التي استولى عليها في العراق ونحو 20% من الأراضي التي سيطر عليها في سوريا، لكن يوماً بعد آخر، تظهر الأرقام الصادمة حول الخسائر البشرية وتفاقم العنف عبر الممارسات البشعة التي يرتكبها «داعش». وعليه، يمكن اعتبار هذا التنظيم من ضمن الأكثر إجراماً في التاريخ الحديث. ويبقى أن التفاؤل بسقوط «داعش» والقضاء عليه لا يعني تجاهل المشاكل التي ستعقب ذلك: أولاً: بات الآلاف من عناصر «داعش» منتشرون، وهم يقومون بعمليات في كل أصقاع المعمورة من خلال تفجيرات تنفذها خلايا أو عناصر منفردة. فقارة أوروبا أضحت مسرحاً للعديد من الأعمال الإرهابية في العامين الماضيين، خاصة بعد أن اختار «داعش» فرنسا بالذات لأسباب خاصة، منها أن استهدافها أمنياً يشكل «ضربة» قوية لمفهوم العلمانية والعولمة ونمط الحياة الغربي، وباعتبارها الدولة الأكثر انفتاحاً على الآخرين بين دول الاتحاد الأوروبي. كما بات تنظيم «داعش» يبدي اهتماماً خاصاً بمنطقة جنوب شرق آسيا وبالتمدد في دولها، وهو ما انعكس في مسارعة التنظيم الإرهابي إلى إعلان مسؤوليته عن عمليات إرهابية وقعت في بعض دول المنطقة، مثل الاعتداءات التي شهدتها العاصمة الإندونيسية جاكرتا، فضلاً عن قيام بعض الجماعات المسلحة في تلك المنطقة بإعلان الولاء «لداعش»، على غرار جماعة «أبو سياف» الفلبينية وشبكة «مجاهدي شرق إندونيسيا»، إضافة إلى تزايد أعداد مواطني تلك المنطقة الذين انضموا إلى «داعش» وشاركوا في الحرب الدائرة في سوريا والعراق. وكذلك الأمر بالنسبة لأفريقيا، فهناك أيضاً جماعات متطرفة على رأسها نحو 200 من عناصر حركة الشباب الصومالية المتحالفة مع تنظيم «القاعدة»، والذين شكلوا تنظيماً خاصاً بهم أعلنوا تبعيته لمنظمة «داعش» كأول ذراع لها في شرق أفريقيا، بعد تمكنه من اجتذاب مئات الشباب الأفارقة، حتى أضحت المنظمة تتمركز في شرق أفريقيا في مناطق التماس الحدودي بين الصومال وكينيا كنقطة انطلاق من مناطق الشرق الأفريقي والنفاذ منه إلى منطقة غرب أفريقيا، خاصة إلى النيجر ونيجيريا وتشاد والكاميرون، ناهيك عن وجودهم في مصر وليبيا وبلدان أخرى عديدة. ثانياً: تظهر تقارير دولية وسجلات المنظمات الإنسانية الأعداد الهائلة من عناصر التنظيم التي ستعود بعد القضاء المفترض على «داعش» إلى بلدانهم، حيث نجحت الأخيرة في تجنيد مسلحين من أكثر من 40 دولة حول العالم، 72% من إجمالي عددهم من جنسيات عربية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أفاد «المركز الدولي للتصدي للإرهاب» بأن ثلث المقاتلين الأوروبيين المنتمين لـ«داعش» قد غادروا سوريا فعلياً. ووفقاً لتقديرات «المركز»، يتجاوز العدد الإجمالي للدواعش الأوروبيين 4 آلاف شخص، وهم شباب تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً. وفي حين تبقى دوافع عودة غالبيتهم إلى بلادهم الأوروبية مجهولة حتى الآن، فإن خبراء يعتقدون أن «قسماً منهم تأثر كثيراً بما شاهده من فظائع في سوريا والعراق ويشعر بالذنب ويرجو التوبة، لكن قسماً منهم عاد إلى الوطن كخلايا سرية بهدف تنفيذ أعمال إرهابية وتجنيد إرهابيين جدد». أما في العالم العربي، فالأمر أكثر خطورة، فمع الحرب في العراق وسوريا وانحرافات ما سمي «الربيع العربي»، ستكون عودة هؤلاء أشد خطورة، وربما تسرع في تفتيت الدولة القُطرية. ولعل الأمر الأكثر خطورة هو أن «داعش» أطلقت ما تسميه «النفير العام» لأعضائها للتصرف بحرية في أي مكان يوجدون فيه، ناثرين إرهابهم على أوسع نطاق. ثالثاً: من المؤكد أن الانتصار على تنظيم «داعش»، عسكرياً، سيكون انتصاراً ناقصاً غير مكتمل، فالحرب ضد هذا التنظيم ليست أمنية فقط، وإن كان ذلك الجانب من الأهمية بمكان، بل الحرب الحقيقية هي مواجهة فكرية وعقائدية طويلة الأمد، ومسؤوليتها تقع على عاتق صانع القرار السياسي على مستوى العالم، وبالذات في الدول العربية والإسلامية، وعلى رجال الدين الإسلامي، وعلى الإعلام.. لتكون المعركة فكرية بالحجج والبراهين القادرة على تبديد فكر الإرهاب والجهل المنتشر اليوم في الشرق الأوسط خصوصاً، وعليه، يكون القضاء على تنظيم «داعش»، وغيره من المنظمات الإرهابية، عبر الفكر والإقناع المناهض للغلو والتطرف، وهو أمر يخافه الإرهابيون أكثر من المواجهة العسكرية. ومع ذلك، وللأسف الشديد، ستبقى ظاهرة «داعش» لمدة طويلة حتى بعد القضاء على «دولتها» عسكرياً، الأمر الذي سيجعل العالم ينشغل بها لسنوات قاحلة طويلة، فحذار أن نكون ضحايا للتفاؤل السريع والساذج، بقرب نهاية «داعش» وبشاعاته!