للداعية التركي «محمد فتح الله غولن» أشرطة وعظية كثيرة وكتب دينية عديدة، بعضها مترجم إلى العربية، مثل كتابه «أسئلة العصر المحيرة» الذي عرض فيه إجاباته عن العشرات من الأسئلة الغيبية والتاريخية والفقهية وغيرها، ولم يتصور «غولن»، وهو من أعلام الإسلام السياسي التركي، أن أسباب تدهور علاقته بالرئيس الغاضب رجب طيب أردوغان، أحد تلاميذ الدعوة والمتحمسين لمنهج غولن، ستضاف إلى أسئلة العصر المحيرة، وتبقى كالعديد منها.. بلا جواب. مرت بالأتراك ظروف صعبة عديدة بدأت بهزيمة الدولة العثمانية مع حليفتها القيصرية الألمانية في الحرب العالمية الأولى ضد إنجلترا وفرنسا، وانتهت الإمبراطورية العثمانية إلى دولة صغيرة نسبياً كادت تضيع إلى الأبد إثر هجوم اليونانيين على غربي تركيا واحتلالها، لولا بطولة مصطفى كمال أتاتورك والوطنيين الأتراك ممن كانوا معه، فبقيت تركيا الحالية وطناً يضم الأتراك والأكراد والأرمن والمسلمين والعلويين والمسيحيين واليهود. وفي القرن العشرين عاش الأتراك تجارب اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية، ومرت بهم عدة انقلابات عسكرية قبل أن تصل دفة الحكم إلى يد الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه ذي «المرجعية الدينية»، بانحياز الرئيس الواضح إلى الإخوان المسلمين في مصر وسوريا وغزة وليبيا، والإسلاميين الموالين للجماعة في كل مكان. على الرغم من تعاطف القيادة التركية مع إخوان مصر بثمن باهظ من المصالح التركية، وهو ما أغضب العديد من القيادات داخل حزب «العدالة والتنمية» وفي تركيا عموماً، فإن الأجهزة التركية الرسمية لا تكف عن الشكوى من أن العالم كله يهاجم تركيا، ويدعم «داعش» وحزب «العمال الكردستاني» وجماعة «غولن»، وذلك «من أجل تقسيم تركيا وتدميرها»، مع أن الحكومة لا تقدم جواباً مقنعاً عما سيكسبه العالم من خراب دولة رئيسة مزدهرة في المنطقة مثل الجمهورية التركية؟ البعض يرى أن الحكومة تعزف على وتر الكراهية الدولية لتركيا للتستر على بعض أخطائها في إدارة الملف الكردي، ولأن الحكومة، كما يقول كاتب إسلامي كردي، لم تستمع في تزايد نفوذ داعش «إلى من نصح وحذر من غلبة الإسلاميين على المشهد السوري، وسمحت لكل «مجاهد» جاء من أصقاع الأرض قاطبة بأن يدخل إلى سوريا، حتى ظهر تنظيم «داعش»، وتذرعت به القوى الغربية وروسيا من أجل إرسال قواتها إلى سوريا فيما نحن نتفرج». وتتحمل الحكومة التركية، يقول نفس الكاتب الصحافي «ليفينت غولتكين» في مقال مترجم بجريدة الحياة، مسؤولية تفاقم دور الداعية فتح الله غولن، «فالحكومة ما فتئت تدافع عن هذا الداعية وتمدحه عندما كانت جماعته تفتك بالعلمانيين واليسار وبمؤسسات الدولة في الجيش والقضاء والأمن، ولا تريد الحكومة الإقرار بأنها وقفت موقف المتفرج والرضا وهي ترى هذا الأخطبوط يكبر ويتمدد لأنه كان يفتك بالمعارضين وحدهم، ولم تخف عليها مهزلة محاكمة العسكريين وهي تدرك أن المحاكم صارت بين أيدي جماعة غولن، وأنهم هيمنوا على الأمن والاستخبارات». مهادنة السلطة لهذه الجماعة تواصلت نحو ما هو أخطر، يضيف الكاتب: «ولم يزعجها مآل نفوذ الغولتيين على رغم أنهم سعوا إلى التخلص من ذراع أردوغان اليميني رئيس الاستخبارات قبل عامين، ولم تنزعج الحكومة من غولن إلا عندما استدار ذاك الأخطبوط لتلتف ذراعه حول أردوغان، عندها صار تنظيم غولن تنظيماً إرهابياً، وتحولت العلاقة مع ذلك الأخطبوط إلى حرب ضروس، فكان رد غولن بمحاولة الانقلاب العسكرية، بعدها تقول الحكومة إن القوى العالمية تستخدم غولن من أجل هدم دولتنا». إذا كان هذا حقاً حجم مخاطر «غولن» بأمواله وأجهزة إعلامه وشبكة مدارسه وشركاته ودعاته وقضائه وضباطه، والتي تغولت في ظل نفوذ الإسلاميين بلا حدود، يبقى سؤال محير ثان، هو: إلى أين تمضي تركيا من هنا؟ لقد عاشت تركيا منذ 15 يوليو 2016 صيفاً ساخناً بحق، وتراجعت أوضاعها الاقتصادية وثرواتها ومدخولها السياحي بخاصة، وكانت البلاد قد احتلت واجهة الأحداث العالمية قبل ذلك بعام مع توالي الأعمال الإرهابية التي لم يسلم منها حتى مطار إسطنبول، ثم أخيراً باشرت تركيا تدخلاً واسعاً في سوريا بالدبابات والطائرات خلال عملية «درع الفرات»، فهل هذا التدخل في الأوضاع السورية مدروس.. أم مغامرة؟ إن صورة أردوغان يتقاسمها الآن أمران متناقضان، فهو من جانب، كما تقول التحليلات، يواصل حلمه ب«تركيا الجديدة»، وهو يدشن مسجداً ضخماً أو جسراً مذهلاً على مضيق البوسفور وغير ذلك، ومن جانب آخر تتعقد علاقته بالأكراد. ويقول الكاتب التركي «أحمد أنسل» في افتتاحية صحيفة «جمهوريت» بأن «مع الأكراد هناك جرح يتحول إلى ورم سرطاني بسبب التصعيد في النزاع الدامي، إن الضغينة بين الأتراك والأكراد ستزداد أكثر فأكثر، إنها قنبلة موقوتة»، وتقول «دوروتيه شميد» من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، بعد التدخل في سوريا يمكن توقع امتداد هذا العنف الكردي في جنوب شرقي البلاد إلى مناطق بقيت في منأى حتى الآن، وسيكون هناك المزيد من الاعتداءات في الغرب، أما بالنسبة لداعش، فإن استئصاله في سوريا يمكن أن يدفع إلى «انتقال كل خلاياه النائمة في تركيا إلى التحرك»، مما يجعل البلاد «تعيش على وقع الاعتداءات لفترة طويلة» [القبس 1-9-2016]. وتلخص «شميد» الوضع قائلة: «إن انتقام أردوغان بعد الانقلاب الفاشل، وإظهار القوة في سوريا، لا يمثلان استراتيجية استقرار ولا استراتيجية تنموية للبلاد». ما مصير أهم تجربة إسلامية.. ديمقراطية؟