انشغل المراقبون والمعلقون خلال العام الماضي، أثناء احتماء وطيس المنافسات التمهيدية، في محاولة فهم «ظاهرة دونالد ترامب». وكانت خطاباته المبتورة أقرب إلى ترّهات من شخص خارج عن السيطرة، بخلاف ما كان متوقعاً من مرشح رئاسي جاد. ودأب ترامب على مناقضة نفسه، وفي كثير من الأحيان، كان يتفوّه بالأكاذيب الفجّة. ولم يسلم من إهاناته جماعات أو أفراد، وهو ما أربك قادة حزبه «الجمهوري». وعلى الرغم من ذلك، كانت حشوده ضخمة ومتعاطفة، ومستويات تأييده في استطلاعات الرأي كانت مرتفعة، وأصيبت الطبقة السياسية بحالة من الذهول! وفي صباح الأحد الماضي، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» ما يفترض أنهما مقالين «تحليليين» يزعمان أن ترامب ربما لا يكون «يمينياً» مثلما كان يخشى البعض. غير أن منهجية كاتبي المقالين موضع شك في أفضل الأحوال. فكلاهما زعم أن أفضل طريقة لتمييز المواقف السياسية الحقيقية للمرشح هي جمع تصريحاته المتناقضة بشأن أي عدد من القضايا ومحاولة التوفيق بينها. وتوصل كلاهما إلى أن المرشح ربما كان يتعثر في طريقة خطابه الفظة، لكن دونالد ترامب الحقيقي ليس محافظاً ولا ليبرالياً، وإنما «معتدل» في داخله! وبقدر خطأ هذا الطرح، إلا أنه كان مسلياً، لكن ما أخطأه المؤلفان، وما يبدو أن كثيراً من المراقبين لا يفهموه هو أن السياسات، أو حتى الكلمات في حد ذاتها، ليست ما يهم دونالد ترامب، وإنما الأداء وردة الفعل هي ما يهم. وكل ما خلا ذلك هو مجرد خداع يهدف إلى إرباك المحللين البسطاء وجذب مزيد من الاهتمام. ولعبة التضليل هذه بلغت ذروتها خلال الأسابيع القليلة الماضية التي مهدت لمسرحية ترامب الكبرى بشأن الهجرة يوم الأربعاء الماضي. وقد تم تحديد موعد خطاب ترامب ثم تم إلغاؤه خلال الأسابيع الماضية أكثر من مرة، وكل ذلك كي يجعل خطابه أكثر متابعة، وبينما كانت هيلاري كلينتون تجمع الأموال وتدلي بخطابات سياسية جادة، وتواجه مزيداً من الأخبار السيئة بشأن قصة بريدها الإلكتروني التي لا تنتهي وقضايا متعلقة بمؤسسة «كلينتون»، كان ترامب يشوق وسائل الإعلام بشأن إمكانية تغيير موقفه بشأن الهجرة. فهل بدّل وجهات نظره لتصبح أكثر اعتدالاً إرضاءً للمسؤولين «الجمهوريين» الذين أرادوا أن يعدل حامل لوائهم مواقفه؟ وهل كان يحاول توسيع شعبيته للفوز بأصوات ذوي الأصول اللاتينية والناخبين الأميركيين من الأصول الأفريقية؟ وهل أجرى أخيراً التحول الذي طال انتظاره ليصبح «مرشحاً رئاسياً حقيقياً»؟ وفي حين استطرد مقدمو البرامج التلفزيونية وأطنب كتاب المقالات في الصحف المطبوعة، متكهنين بشأن نواياه، قادهم ترامب للبحث عن سراب، لدرجة أن أنصار ترامب أنفسهم وقعوا في الفخ، وحاول بعضهم تبرير التحول المحتمل، زاعمين أنه لم يقصد أبداً تلك الأمور المتعلقة بعمليات الترحيل الجماعي أو بناء الجدار. وشعر آخرون بالقلق من أن أي تخفيف في مواقفه سيكون بتكلفة كبيرة، لأن قاعدة تأييده ارتكزت على قوميين متعصبين يعتقدون أن الجدار سيبنى وأن المكسيك ستموله وأن كافة المهاجرين «غير الشرعيين» سيتم ترحيلهم. وقبل يوم واحد من خطابه حول السياسات الذي تم الترويج له بقوة، أعلن ترامب أنه سيسافر إلى المكسيك للقاء رئيس تلك الدولة. وعندئذ تحولت كل الأبصار إلى حيث أراد.. على شخصه. وتمادى الهوس الإعلامي.. وبات «ترامب كل شيء»، لدرجة أن إحدى الشبكات التلفزيونية وضعت ساعة في ركن شاشتها تعد عكسياً في انتظار «الخطاب المرتقب». وما كان يُعتقد أنه لقاء «جريء وخطير»، في المكسيك تحول إلى همهمة لا طائل من ورائها. والتقى المرشح الأميركي المثير للجدل الذي يصعب التكهن بتصرفاته الجامحة مع رئيس مكسيكي لا يحظى بشعبية، ولم ينطو حديثهما على شيء مهم لأي شخص! وما أجده مثيراً للاهتمام دائماً في خطابات ترامب السياسية هو طريقة إلقائها، فكلما حاول إلقاء خطاب سياسي مهم، كان يلجأ إلى قراءة ملاحظاته قراءة سيئة رغم أنه يقرأها عبر شاشة التلقين. غير أن ترامب هو ترامب، لم يكن يستطيع عدم الخروج عن النص. لذا كان يقرأ سطراً ثم يعلق، كما لو أنه يوافق على ما قرأه. وبالطبع، يكون التأثير العام مثيراً للسخرية. ووصف خصوم ترامب الخطاب بأنه محض «تدريب على التصريحات المفعمة بالكراهية، المليئة بالأكاذيب»، ووصفه المؤيدون بأنه «إعادة تنطوي على مزيد من التفاصيل» حول موقف ترامب المتعصب من الهجرة. وفي الواقع، كان خطابه هذا وذاك، وكان استعراضاً، وبالنسبة لترامب هذا هو الأهم.