مازالت الدولة المعاصرة الفاعل المهيمن في العلاقات الدولية، من منطلقات كون الدولة تتميز بالولاية على إقليم ومجتمع/أمة بشرية مع وجود نظام سياسي وآخر إداري، يضاف إلى ذلك أن "الدولة" لا تعترف بأية سلطة دستورية أعلى منها. وعند الوقوف في إطار أن الدولة إقليم ومجتمع/أمة بشرية فإن من اليسير القول بأن الدولة هي الفاعل الأكثر تأثراً وتأثيراً بتغيرات اجتماعية وأيديولوجية واقتصادية وتقنية وبيئية أيضاً، فهي "الدولة" تتغير بتلك التغيرات أما بسياساتها الداخلية والخارجية، أو بتغير نظامها السياسي المسيطر على سلطة الدولة. وإذا نظرنا إلى الدولة من خلال نظامها السياسي، فهي "الدولة" التي تستطيع تجاوز إقليمها وقدراتها المادية نحو تحقيق مصالحها وأمنها من خلال إنشاء المنظمات الإقليمية والدولية وإلى جانب تشكيل أحلاف وتكتلات سياسية وأمنية واقتصادية إقليمية ودولية. رغم أن الفاعل الرئيسي هو الدولة، فالفاعلون من غير الدول يمكن حصرهم عبر تعريف ينص على: أي فعل منظم أو غير منظم يأتي من خلال حراك اجتماعي أو عقائدي أو أفكار وأيديولوجيات أو من مؤسسات أو شركات غير حكومية إلى جانب فعالية الصناعة والاختراع والابتكار العلمي والتقني أو أي فعل، وكل ذلك لا بد أن يحمل تأثيرا على العلاقات الدولية، أياً كان هذا التأثير من خلال صناع القرار أو تغير في حراك المجتمعات والأنظمة السياسية في بعض الدول، أو يأتي في تقاطع مع قضايا تهم الدول كالفقر والأمن والبيئة والتنمية والصناعة ونزع الألغام والديمقراطية وحقوق الإنسان، أو يتصادم مع مبادئ العلاقات الدولية مثل تصادم مبدأ السيادة مع مبدأ حق التدخل الإنساني، أو يأتي فعل ما في طريق تطوير وسائل الاتصال والتواصل بين الدول وشعوبها...، أي أن الفعل الذي لا يؤثر في وحدات العلاقات الدولية "الدولة/الدول" لا يمكن اعتباره فاعلاً من غير الدول في العلاقات الدولية. الوقوف على هذا التعريف للفاعلين من غير الدول يقودنا إلى طرح مثال فريد "هو القرصنة الإلكترونية" دون غيره من الأمثلة الكثيرة. نموذج القرصنة الإلكترونية "كفاعل في العلاقات الدولية" يمزج بين السلوك الاجتماعي المدفوع نحو الحقيقة وبين الشهرة بما تتيحهُ التكنولوجيا من اختراقات وتسلل في شبكة الاتصالات والمراسلات السياسية والأمنية. وهذا ينطبق على سلوك مراهق أسترالي قد أعتاد على أعمال القرصنة الإلكترونية "يدعى جوليان أسانج المولود في 1971". ثم تطور هذا السلوك بتطور صاحبهِ في التعليم والعمل، حيث أصبح هذا السلوك مع صحفي ومبرمج في الكمبيوتر والإنترنت. والتصقت شخصية "أسانج" بموقع ويكيليكيس الذي تأسس عام 2006 ولتكن البداية الحقيقية له عندما نشر شريط فيديو لمروحية أميركية تطلق النار على مدنيين في العراق في أبريل 2007. ودخل أسانج إلى دائرة الضوء الدولية حينما سرب وثائق عسكرية أميركية سرية عن حربي العراق وأفغانستان في عام 2010. ومن التسريبات الضخمة حول العالم التي تعد بالملايين، نختار منها الغريب والمثير والمضحك في الشأن العربي، والمرتقب والمخيف في الشؤون الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأميركية. ولعل الغريب والشاذ يحتضنهُ بلاد الرافدين بين الضحية والمجرم، فقد طرحت وثائق مسربة أمام العالم تآمر الساسة العراقيين على العراق نفسه، حيث قام المالكي مع إيران بتسليم قائمة لأسماء علماء عراقيين للموساد والقوات الأميركية وذلك لتصفيتهم بالاغتيال أو الترحيل إلى الولايات المتحدة. ومن المثير في الشأن اليمني قبل عملية "عاصفة الحزم"، أن الحراك السياسي في الجنوب اليمني كان يسعى إلى الحصول على دعم من إيران. أما الجانب المضحك أخذهُ خيرت الشاطر نائب المرشد العام لـ"الإخوان المسلمين"، فقد تم الكشف على أنهُ كان ينوي عقد صفقة مع بعض دول الخليج للإفراج عن حسني مبارك بقيمة عشرة مليارات دولار، وفي الوقت نفسه كان ينسق مع دولة خليجية لدخول انتخابات مصر الرئاسية 2012. الولايات المتحدة الأميركية تعيش حالة ترقب في الانتخابات الرئاسية المقبلة وأيضاً في حالة انتظار لرصد ما قالهُ أسانج، "وهو قابع في سفارة الإكوادور بلندن خوفاً من قرار ترحيله إلى السويد لمحاكمته بتهم الاعتداء الجنسي" بأنه سينشر وثائق جديدة تخص المرشحة "الديمقراطية" للانتخابات الرئاسية الأميركية هيلاري كلينتون، قبل التصويت الانتخابي في 8 نوفمبر المقبل، أهذا دهاء منهُ لتقويض فرص فوز الحزب "الديمقراطي" بالرئاسة. وفي الدهاء لنقف عند المكر الأميركي في الشرق الأوسط، الذي أفشتهُ تسريبات أخرى تعود إلى إدوارد سنودن، الذي عمل في وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي الأميركي وهو الآن لاجئ في روسيا، حيث فاجأ الكثير في منطقتنا عندما رفع الستار عن خطة عش الدبابير، التي تقضي بإنشاء منظمة تجمع متطرفين إسلاميين، وتكون هذه المنظمة متناحرة مع الدول العربية، وعملية عش الدبابير كونت "داعش"، وهي صناعة أميركية بتنسيق مع أجهزة بريطانية وإسرائيلية، وحسب "سنودن" ما أبو بكر البغدادي إلا مسيطر عليه، وأولى حلقات السيطرة كان بسبب شذوذهِ الجنسي في السجن، إذن واشنطن صنعت المجرم بالأمس وتطاردهُ وتحاربهُ اليوم. حقيقةً، أصبحت القرصنة الإلكترونية الكاشفة عن عمل الحكومات والمخابرات وأجهزة الدول ورجال الساسة والأمن تحتل مكانةً بارزة ضمن الفاعلين من غير الدول، لأنها قادرة على فك شفرة المؤامرات والمصالح المتضاربة إلى جانب تأثيرها على بعض مسارات العلاقات الدولية، التي بدورها أضحت أكثر تعقيداً بسبب عدم وضوح السياسات الخارجية والأمنية بين المعلن عنه والمدفون والمتدثر في النفوس والشبكة العنكبوتية.