تحدثنا في الأسابيع الماضية عن العديد من المساوئ السياسية التي تعتري دولاً تعرف مخاضات متتالية، من قبيل هشاشة الأحزاب السياسية وغياب الديمقراطية الحزبية، وفقدان القشرة الحامية للدول والمؤسسات، والاستئثار بالمجال السياسي باسم شعارات لا تستقيم مع أبجديات العلوم السياسية، وهي طال الزمن أم قصر ستئد التنوع والتعدد، والقبول بمبدأ الاختلاف كقاعدة للعقد السياسي الديمقراطي، وأيضاً من قبيل عدم استبطان بعض الفاعلين السياسيين لفكرة الدولة، ولفكرة المجال السياسي العام، والوعي السياسي الصحيح. وقلنا إن الديمقراطية ليس هي فقط صناديق الاقتراع وإنما هي أيضاً وعي وثقافة وسلوك وإيمان راسخ واستبطان لفكر الدولة وتوطينها في النسيج الثقافي والنفسي.. والسؤال الذي نطرحه هنا: وماذا عن المجتمع المدني؟ وماذا عن دوره كفاعل في الخطاب والتاريخ، على شاكلة التجارب الغربية التي عرفت نهضة بنت دولا ومؤسسات؟ مفهوم المجتمع المدني يتداخل مع مفهوم المجتمع الأهلي، وهو كثير الانتشار في الكتابات السياسية العربية؛ والواقع - على حد تعبير الزميل عبدالإله بلقزيز- أن مساحة التقاطع بينهما موجودة على الرغم من التمايز الماهوي بينهما. إذ يشار إلى مؤسسات المجتمع المدني والمجتمع الأهلي - على السواء - بحسبانها المؤسسات الاجتماعية التضامنية التي يجتمع مجتمع ما إلى تأليفها؛ وغالبا ما تكون لذلك التأليف وظيفة دفاعية يؤمن بها المجتمع كقدر الضروري من استقلاله في مواجهة فاعلية التدخل السياسي والاجتماعي للسلطة المركزية. في هذا تشترك القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب والعائلة والإقليم، وهي بنى المجتمع الأهلي ومؤسساته، مع النقابة والرابطة الحقوقية والاتحاد الطلابي والجمعية النسائية والعصبة المهنية والتجمع الاقتصادي للمستهلك والمنتدى الثقافي. بعض ?الدول ?التي ?كانت ?فيها ?السلطوية ?شديدة، ?كليبيا ?مثلاً، ?لم ?تجد ?عندما ?هبت ?نسمات ?التحول ?السياسي، ?المجتمع ?المدني ?النشيط ?ليصاحب ?هذه ?المرحلة ?الانتقالية ?الصعبة؛ ?فالمجتمع ?المدني ?يجب ?أن ?ينشأ ?من ?القاعدة، ?وعلى ?أسس ?لا ?تحور، ?لتلبية ?رغبة ?مجتمعية ?معينة ?على ?شاكلة ?الجمعيات ?التي ?وصفها توكفيل ?في ?الولايات ?المتحدة ?الأميركية ?منذ ?ما ?يزيد ?على ?قرن ?ونصف، ?من ?حيث ?كونها ?بعيدة ?عن ?المصالح ?المفروضة ?أو ?الغرائز ?العمياء. وبالإشارة إلى توكفيل، دائماً ما أنصح طلبتي في الجامعة الذين يدرسون العلوم السياسية والسوسيولوجيا والعلاقات الدولية، بقراءة كتاب ألكسي دو توكفيل «عن الديمقراطية في أميركا»، والذي كتبه بعد رحلته إلى أميركا عندما كان وزيراً لخارجية فرنسا، وهو من أدق الكتب وصفاً للديمقراطية التي تسود المؤسسات الأميركية، ونشأتها وكيفية عملها والعوامل الداخلية والخارجية التي تقويها. وقد نظر إليها من زاوية السياسي الكبير وعالم الاجتماع المحنك، وقد نجح في الإجابة على سؤال وجيه: لماذا المجتمع الأميركي ديمقراطي؟ في البداية، يعطي توكفيل مفهوماً محدداً للديمقراطية مبني على المساواة، بمعنى قبول حق المشاركة الحرة للأفراد المتساوين في النشاط الاقتصادي والتمتع بثمراته، وفي الحياة الاجتماعية، وفي المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة، وفي تولي المناصب والمسؤوليات، فضلًا عن المساواة أمام القانون.. ?وكان ?توكفيل ?قارئاً ?مميزاً ?للديمقراطية ?الأميركية ?وكيفية ?اشتغالها، ?لذلك ?اكتشف ?النواة ?المحركة ?في ?البلد ?فوجدها ?في ?منظمات ?المجتمع ?المدني ?التي ?تسمح ?بالفبركة ?والتأثير ?في ?مضمون ?القرارات ?الجماعية ?الملزمة ?للجميع، ?وفي التنمية ?الاقتصادية ?والاجتماعية ?والثقافية، ?بل ?وحتى ?في الجوانب الدينية. ?ويختم ?توكفيل ?تحليله ?القيم ?الذي ?يجب ?أن ?يصغي ?إليه ?كل ?من ?له ?اهتمام ?بكيفية ?بناء ?الدول ?والمجتمعات ?البناء ?الصحيح: «إن ?العامل ?الرئيسي ?الذي ?يسمح ?بإيقاف ?عجرفة ?الأحزاب ?السياسية ?وسلطوية ?القائد ?هو ?الجمعيات؛ ?في ?المجتمعات ?المتقدمة، ?تقوم ?الجمعيات ?بإيقاف ?تجاوزات ?السلطة؛ ?وفي ?الدول ?التي ?لا ?توجد ?فيها ?تلكم ?الجمعيات ?وحين ?يكون ?الأفراد ?عاجزين ?عن ?إنشاء ?شيء ?يشبهها، ?لا ?أرى ?هناك ?سدّاً ?حصيناً ?يمكن ?أن ?يمنع ?الديكتاتورية، ?وشعب ?بأكمله ?يمكن ?أن ?يُباد ?إما ?من ?مجموعة ?من ?الأفراد ?الضالين ?أو ?رجل ?متسلط ?واحد». ولعمري إن الضلال السياسي الذي تعرفه أقطار عدة إذا بحثت فوق حشائش وتحت حشائش المجالات المكونة للدولة، ستجد أن دور المجتمع المدني السياسي فيها غير مفعل، ولا أظنه غير موجود.. لأنه يستحيل أن تكون هناك دول ذات سيادة من دون قوى حية هي المجتمع المدني، ونسبة كثيرة من خلاصها تكمن اليوم في قيام هذا المجتمع المدني بالدور التاريخي المنوط به.