في إطار المسح الاجتماعي الشامل للمجتمع المصري في المرحلة الثانية (1980-2010) الذي نشر المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية نتائجه الرئيسية في عدة مجلدات ظهر ما أطلق عليه «المجلد السياسي» بإشراف وتحرير الدكتور «هويدا عدلي» وشاركت في بحوثه نخبة من أبرز الباحثين في العلوم السياسية، وهذا المجلد المهم يتضمن في الواقع مسحاً وتحليلاً بالغ الدقة للتطورات السياسية التي حدثت في مصر من عام 1980 حتى عام 2010، وهو يتناول في فصوله المختلفة التي بلغت عشرة فصول الموضوعات التالية: «دستور 1971 نظام الحكم في مصر: إشكاليات العلاقة بين السلطات في الإطار الدستوري والقانوني للانتخابات التشريعية»، «الانتخابات البرلمانية في مصر 1981-2010»، «الأحزاب السياسية في مصر»، «النقابات المهنية»، «النقابات العمالية وحركة العمل الأهلي: اتجاهات التطور وحركات الإسلام السياسي في مصر 1981-2010»، «الحركات الاحتجاجية في مصر قبل ثورة 25 يناير»، وهكذا يتبين أن هذا المجلد يتضمن دراسات موثقة عن كل جوانب الحياة السياسية في مصر في الفترة التي درست مما يجعله مرجعاً لا غنى عنه للباحثين خصوصاً وللقراء عموماً. ونريد في هذا المقال أن نقنع بعرض السمات الأساسية للحركات الاحتجاجية في مصر قبل ثورة 25 يناير، والتي عرضها وحللها بعمق الدكتور «يسري العزباوي»، وذلك لارتباط مادة هذا الفصل بثورة 25 يناير والتي مثلت في التاريخ المصري وفي التاريخ العالمي «قطيعة تاريخية» بمعنى أنه أصبح الآن من الشائع بين الباحثين العرب والغربيين التفرقة بين فترة ما قبل الثورة وحقبة ما بعد الثورة، خصوصاً بعد الانقلابات السياسية الكبرى التي حدثت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا مما اصطُلح على تسميته «ثورات الربيع العربي». وتبدو أهمية الدراسة التي يقدمها الدكتور «العزباوي» عن الحركات الاحتجاجية في مصر قبل ثورة 25 يناير أنها مصداق لما تم عليه إجماع الباحثين فيما يسمى «علم الثورة»، والذي يتحدث عن الأهمية القصوى لما يطلق عليه عملية «الاختمار الثوري». والاختمار الثوري معناه ببساطة تزايد موجات السخط الشعبي سواء بين النخبة أو الجماهير إزاء الاستبداد السياسي وخرق حقوق الإنسان من ناحية والظلم الاجتماعي الفادح الذي لحق بالطبقة الوسطى والطبقات الدنيا في عصر «مبارك»، الذي امتد حتى تجمد وتكلس لمدة ثلاثين عاماً كاملة. والمعنى هنا أن الثورات -مهما كان التعريف الذي سنطلقه على الهبّات الجماهيرية والتي مثّلت ظاهرة «الربيع العربي»- لا تنشأ فجأة ولا تندلع لأسباب غير مفهومة، بل إنها عادة ما تكون حصيلة عمليات تفاعل معقدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وترد أهمية الدراسة كذلك إلى أنها تلقي الضوء بقوة على عثرات ثورة 25 يناير في المرحلة الانتقالية الناجمة عن تشرذم القوى السياسية وعجزها عن رسم رؤية واضحة للمستقبل بالإضافة إلى نجاح جماعة «الإخوان المسلمين» في الوصول إلى السلطة. وهكذا نجحت جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية بعد إقرار مبدأ الانتخابات أولاً قبل وضع الدستور في الحصول على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى بالاشتراك مع «حزب النور» السلفي ثم نجاحها الساحق في إنجاح مرشحها «محمد مرسي» رئيس حزب «الحرية والعدالة»، ليكون رئيساً للجمهورية في مواجهة خصمه «أحمد شفيق»، وإنْ كان بنسبة متدنية نحو 51%. ويبقى السؤال: ما الحركات الاجتماعية التي مهّدت لثورة 25 يناير؟ يبدأ الدكتور «العزباوي» بتعريف الحركات الاحتجاجية والتمييز الدقيق بينها وبين الأحزاب السياسية، فيقرر في صدر الفصل الذي كتبه «يمكن تعريف الحركات الاحتجاجية بأنها تلك التنظيمات التي تسعى للاعتراض على مجموعة من السياسات العامة التي تنفذها الدولة، أو تقوم بها السلطات المؤسسية التي تستخدم الاحتجاج كآلية رئيسية لإيصال مطالبها سواء بشكل سلمي أو عنيف»، ثم يضيف: «وبهذا المعنى فإنها تختلف عن الأحزاب السياسية التي تسعى للوصول إلى الحكم من خلال الانتخابات، وتتشابه مع «جماعات الضغط» التي تستهدف التأثير على قضية معينة. والباحث يميز بين فئتين من الحركات الاحتجاجية الأولى والتي اهتم بها اهتماماً خاصاً لأهميتها هي «الحركة المصرية من أجل التغيير» حركة «كفاية». والثانية هي الحركات الشبابية التي دعت للثورة وهي «حركة شباب من أجل التغيير» وحركة «تضامن»، وحركة «شباب 6 أبريل» وحركة «حشد» وحركة «العدالة والحرية» ومجموعة «كلنا خالد سعيد» و«الحملة الشعبية لدعم البرادعي» و«رابطة دعم البرادعي». حركة «كفاية» كانت أبرز الحركات الاحتجاجية قبل الثورة. وهي إنْ كانت مارست أنشطتها الاحتجاجية باعتبارها حركة معارضة من داخل النظام إلا أنها سرعان ما تحولت إلى «الانشقاق السياسي» وهي ظاهرة عرفّها علم السياسة بأنها عملية انقلاب على النظام السياسي السائد بغرض تغييره. وتبدو أهمية الموقع الإلكتروني «كلنا خالد سعيد» في أنه استطاع أن يجذب عدداً كبيراً من الشباب المتحمسين من غير النشطاء، وتضم هذه المجموعة أعضاء من اللجنة الشعبية لشباب «الجمعية الوطنية للتغيير»، وحركة «شباب من أجل العدالة والحرية»، وحركة «6 أبريل». ويقرر الدكتور العزباوي أن معظم شباب صفحة «كلنا خالد سعيد» ينتمون إلى مستويات طبقية مختلفة إلا أنه ليس لهم أي توجه أيديولوجي وأهمية هذه المجموعة في الواقع أنها أبرزت خطورة الثورة المعلوماتية في الحشد الشعبي. غير أنه يمكن القول -كما جاء في الذكر الحكيم- «إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة»!