في عام 2008 صدر للكاتب السياسي الأميركي فريد زكريا (يتحدر من أصول هندية) كتاب عنوانه:«عالم ما بعد الأمركة»، رصد فيه حركة المتغيرات في العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، وبروز قوى اقتصادية وعسكرية جديدة كبرى (الصين– الهند – الاتحاد الأوروبي)، غير أن كتاباً جديداً صدر في الشهر الماضي يذهب أبعد من ذلك في رصد هذه الظاهرة، ويلقي الضوء على الآثار المباشرة وغير المباشرة لها في العالم، بما في ذلك في عالمنا العربي والإسلامي. والكتاب هو من تأليف المعلق السياسي في صحيفة «فاينانشال تايمز» جدعون راشمان. وعنوانه: «التشريق: الحرب والسلم في القرن الآسيوي». أمران لافتان في عنوان الكتاب،الأمر الأول، هو استخدام عبارة «التشريق» لتحل محل عبارة «التغريب». والتغريب هي الصفة التي كانت تطلق على محاولات الغرب بسط نفوذه ومدّ سيطرته إلى أنحاء عديدة من العالم خاصة في آسيا وأفريقيا. أما الذي يحدث الآن فهو على العكس، ولذلك استعمل المؤلف كلمة «التشريق». فالصين تبسط نفوذها وسيطرتها على مدى جوارها القريب (بحر الصين الذي تتنازع السيادة عليه مع دول المنطقة). وعلى المدى البعيد أيضاً حتى أفريقيا، حيث تقيم مستعمرات صينية لعمال المناجم والمزارعين الصينيين الذين يجري توطينهم –أو شبه توطينهم- في دول عديدة من دول القارة. في مطلع أربعينيات القرن الماضي، وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، نصّب الغرب نفسه دياناً على مناطق واسعة من العالم، ولذلك أصبحت كلمة التغريب تحمل معاني لا تقتصر على الهيمنة السياسية فقط، إنما تذهب إلى أبعد من ذلك لتحاول تغريب الثقافات المحلية والعادات الاجتماعية. وأصبح النمط الغربي في الحياة في الملبس والمأكل والمشرب وحتى في المسكن، هو النموذج الأفضل، وهو المقياس للحكم على مدى تقدم الشعوب أو تأخرها. ولم يكن ذلك هو الهدف حصراً، بل كان مجرد وسيلة لفرض حالة من الاستتباع السياسي والاقتصادي. ذهب «التغريب» حتى الصين واليابان وشرق آسيا، كما جاء إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أيضاً. وربما كان ذلك بداية الحراك الإسلامي لمواجهة التغريب من حيث اعتباره وسيلة لتغيير القيم الدينية، تسهيلاً لعملية الاستتباع للغرب. غير أن الكتاب الجديد «التشريق: الحرب والسلام في القرن الآسيوي»، يطرح الإشكالية من زاوية جديدة ومعاكسة تماماً، فالتشريق اليوم يتتبع خطى التغريب السابقة لتحقيق أهداف مختلفة. من الأمثلة التي يقدمها الكتاب، الموقف الصيني من الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن عدم مشروعية ضم الصين للمناطق المتنازع عليها في بحر الصين. ورغم أن الحكم يصدر عن أعلى سلطة قضائية دولية أنشئت في عام 1899، ورغم أن أحكامها نهائية وقاطعة، فإن الصين ضربت بها عرض الحائط، واعتبرتها كأنها لم تكن. هكذا كانت تتصرف بريطانيا وفرنسا من قبل، وهكذا كانت تتصرف الولايات المتحدة أيضاً. كانت الشرعية هي ما يقرره الغرب أو ما يفرضه بقوة الأمر الواقع. أما اليوم، فإن الشرعية هي ما يقرره الشرق، الصين مثلاً وفي الدرجة الأولى! ومن خلال عرض الكتاب، يوحي المؤلف البريطاني بأن الشرق يتصرف الآن كما كان يتصرف الغرب عندما كان يتفرد بصناعة السياسات واتخاذ القرارات الدولية (التغريب) وهو ما تفعله أيضاً الهند، ولو بدرجة أقل، في موقفها من قضايا كشمير في الشمال وآسام في الشمال الشرقي.. ولذلك فإن «التشريق»، سواء صدر عن الصين أو روسيا أو الهند، وعن غيرها من الدول، ما هو إلا تقليد «للتغريب» الذي عرفه العالم، وعاناه على مدى عقود طويلة من الزمن. كل ما تغير هو هوية اللاعب وموقعه الجغرافي.. أما الضحية فإنه واحد لم يتغير!