في الشهر الماضي، بدت جامعة شيكاغو للوهلة الأولى، وكأنها تنحاز لطرف دون آخر، في النسخة الأخيرة من حروب أميركا الثقافية. ولكن الأمر لم يكن كذلك في الحقيقة، حيث إن كل ما فعلته الجامعة هو أنها أعلنت مدى سخافة تلك الحروب، وكيفية تجاوزها. وما حدث، هو أن الجامعة أبلغت طلابها الجدد من خلال رسالة بما نصه «إن التزامنا بالحرية الأكاديمية، يعني أننا لا ندعم ما يطلق عليه «تحذيرات الزناد»، وأننا لا نلغي كلمات المتحدثين المدعوين، لأن موضوعاتهم قد يتبين أنها مثيرة للجدل، كما أننا لا نسمح بخلق مساحات ثقافية آمنة، يمكن أن ينأى فيها الأفراد عن الأفكار والآراء، التي قد لا تتفق مع أفكارهم وآرائهم الخاصة». وقد رأى المحافظون في هذا الرسالة تدخلاً سياسياً، وموقفاً شجاعاً ضد «الصوابية السياسية»، كما لو أن جامعة شيكاغو، كانت تقاسم دونالد ترامب، وبن كارسون، وغيرهما قلقهم، بشأن الوثوقية الأثوذكسية اليسارية في الجامعات، ووسائل الإعلام، والنقاشات السياسية. ولكن الدرس الحقيقي الذي تتضمنه الرسالة، يقع في مكان آخر هو أنها في جوهرها تدخل وموقف سياسي، بشكل واضح. خلال الـ27 عاماً التي قضيتها كعضو هيئة تدريس في جامعة شيكاغو، سمعت كافة أنواع المجادلات المحرجة، بل والصادمة. وقد سمعت أساتذة بارزين وهم يجادلون بأن قوانين الحقوق المدنية العظيمة في الستينيات غير دستورية، وأن التداول للعاملين في السوق المالية يجب أن يسمح به بحرية، وأن مفوضية الاتصالات الفيدرالية يجب أن تلغى، وأنه ليس هناك شيء في الدستور يمنع الفصل العنصري، وأن الحكومة يجب أن يُسمح لها بالرقابة على المحادثات، كلما كانت الفوائد المترتبة على ذلك أكبر من التكاليف. وسمعت أيضاً أساتذة مرموقين، وهم يجادلون بأن الدستور يتطلب «برامج عمل إيجابية»، وأن فكرة تعويض الأميركيين من أصول أفريقية عما لحق بهم من أضرار، ستكون فكرة ممتازة، وأن القانون الفيدرالي يجب أن يمنع الموظفين من ممارسة التمييز ضد الشواذ والسحاقيات، وأن القضاة لا يتبعون -ولا ينبغي أن يتبعوا- نص الدستور، وأن كارل ماركس كان محقاً من حيث الجوهر، بشأن الأسئلة الأكثر عمقاً في فلسفته السياسية. غير أن هذه الحجج المتباينة كأشد ما يكون التباين، تنطوي على سمة موحدة. فحتى عندما كان يتبين أن بعضها حجج بعيدة عن العقل، فإن المقتنعين بها كانوا يدافعون عنها بأدلة قوية، لا يمكن لأحد تجاهلها ببساطة. قد تعتقدون أن قوانين الحقوق المدنية دستورية وأن ذلك لا يحتاج إلى دليل، ولكن في جامعة شيكاغو، يشعر الناس بالحرية في طرح سؤال منطقي هو: من أين يحصل الكونجرس على السلطة التي تخوله منع الشركات الصغيرة في ولاية مثل إنديانا، من استقطاب الأشخاص، الذين تريد الاستعانة بخدماتهم؟ قد تعتقدون أنه من الواضح أن القضاة يجب أن يلتزموا بنص الدستور، ولكن في جامعة شيكاغو، يؤكد بعض الأساتذة أنه فيما يتعلق بحرية التعبير -وهي الحرية الأكثر جوهرية من بين جميع الحريات- فإن القضاة قد لا يلتزمون بنص الدستور بشأنها. وبالكيفية نفسها، وفيما يتعلق بكثير من القضايا الكبرى والصغرى، يُعرف طلاب جامعة شيكاغو، برغبتهم في تحدي الوثوقيات والأرثوذكسيات المعاصرة. فمنذ فترة بعيدة ترجع لمنتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، رفض طلبة كلية الحقوق كثيراً من الآراء السائدة، ورأوا أن هناك حقاً دستورياً في اقتناء الأسلحة. وفي فترة أحدث، قدمت جامعة شيكاغو حججاً قوية تؤيد تعزيز حقوق مالكي العقارات، وحماية حقوق الحيوانات. وفي التأكيد على أن الجامعة لا تسمح بخلق «مساحات ثقافية آمنة»، فإن الرسالة التي باتت معروفة الآن، لم تتدخل في النقاشات الدائرة في الوقت الراهن عن العنصرية، والتمييز ضد الجنس الآخر، ولم تقل أي شيء عن «الصوابية السياسية»، وإنما كانت تؤشر على التزام أوسع نطاقاً بطرح الترحيب بأصعب الأسئلة عن الممارسات الحالية، طالما أن تلك الأسئلة قائمة على أسس راسخة من حيث المنطق، والأدلة، والتاريخ، بدلاً من اعتمادها على التملق، وتسجيل المواقف، أو القيام باستعراض مكشوف. ولكن هذا الالتزام له جانبه السلبي أيضاً. ففي جامعة شيكاغو، تكون الحجج في بعض الأحيان غير سارة، وقد يتم أحياناً جرح مشاعر بعض الناس، علاوة على أنه قد لا يكون هناك الكثير من الثناء والتقريظ. ولكن كلاً من هيئة التدريس والطلاب، يصبحون بموجب تلك المجادلات أكثر ذكاء. وهناك قاضيان مشهوران هما أنطونين سكاليا، وإلينا كاجان، استفادا من الفترة التي قضياها كعضوي هيئة تدريس في الجامعة، وهو ما ينطبق أيضاً على باراك أوباما الرئيس الأميركي الحالي. وهنا درس يمكن الخروج به، ليس بالنسبة للمؤسسات الأكاديمية فحسب وإنما للمؤسسات السياسية أيضاً. فعند حديثه عن المؤتمر الدستوري، أكد جيمس ماديسون الرئيس الرابع للولايات المتحدة في خطاب له على وضع «لا يشعر فيه أي إنسان بأنه مضطر للالتزام بالمحافظة على آرائه، لفترة أطول من الفترة التي كان راضياً فيها عن صحة تلك الآراء وحقيقتها». وأضاف ماديسون في خطابه ذلك «أن كل إنسان يجب أن يكون منفتحاً على قوة الحجة». ولذا فليس من المنطقي تماماً أن نتوقع أن تسود مثل هذه الثقافة في عصر السياسة الحزبية، ناهيك بالطبع عن سيادتها خلال حملة انتخابية رئاسية. ولكن الطموحات مهمة من دون شك، وجامعة شيكاغو لديها طموح حقيقي لتشجيع الحوار وقوة الحجج والمنطق. --------------- كاس سنشتاين* محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»