في كتابه الجديد «كل شيء من أجل فرنسا» يذهب الرئيس الفرنسي السابق «نيكولا ساركوزي» في مقاطع عديدة إلى إقحام الإسلام والمسلمين في الحملة الانتخابية الجارية لرئاسيات مايو 2017. ساركوزي اعتبر في سياق نقاشه لموضوع اللائكية الفرنسية وعلاقتها بالدِّين «أن الجمهورية ليست لها إشكالات مع الديانات، بل مع ديانة وحيدة لم تقم بعد بالجهد الضروري، والذي لا محيد عنه من أجل الاندماج». ومن البدهي من خلال حديث ساركوزي أن المقصود هو الإسلام الذي لا يمكن بالنسبة إليه أن يتأقلم مع النسيج الوطني الفرنسي دون أن يقبل الخلفيات الثقافية والحضارية للأمة الفرنسية، التي هي في نهاية المطاف خلفيات مسيحية على الرغم من الطابع الجمهوري العلماني للدولة. خطاب ساركوزي ليس معزولاً في الساحة السياسية الفرنسية التي عرفت منذ الأحداث الإرهابية التي ضربت باريس ونيس هذه السنة موجة عداء حادة ضد الإسلام والمسلمين، وقد اشتهر في هذا الباب كتاب مشهورون هيمنوا على الشاشات المرئية وأعمدة الصحف من بينهم «إريك زمور» و«آلان فنكللكروت» و«رمي براغ». الجديد في الإسلاموفوبيا الفرنسية أنها لم تعد محصورة في اتجاهات اليمين المتطرف والأقلام القريبة من الدوائر الصهيونية، بل نفذت إلى الأحزاب اليمينية الموسومة بالاعتدال، وإلى الشخصيات العمومية المؤهلة للحكم، كما أنها تمحورت حول موضوع الهوية الوطنية والمخاطر التي تهددها باعتبار مصاعب اندماج الجاليات المسلمة الفرنسية وموجة العنف والتطرف التي انفجرت في أوساط المسلمين الفرنسيين. المسلك المعتمد هنا هو إرجاع جذور التطرّف الراديكالي والعنف إلى خلفيات عقدية وثقافية إسلامية، وتحميل المكون الفرنسي المسلم مسؤولية ما تعانيه البلاد من أزمة اندماج عميقة لا شك فيها، دون الرجوع إلى العوامل البنيوية العميقة، التي لم يفتأ يدرسها علماء الاجتماع والسياسة في دراسات منشورة كثيرة. ولنبادر بالإشارة إلى خصوصيات النموذج القومي الفرنسي في السياق الأوروبي والغربي إجمالاً، من منظور كون فرنسا تتميز بنظام الجمهورية اللائكية الذي يقوم على دعائم ثلاث أساسية هي: أولاً: المقاربة المركزية في بناء الأمة، بحيث أن الدولة ذات السيادة المطلقة والحضور الكلي الشامل هي التي وحّدت مكونات النسيج الوطني وهي القوة الضامنة لوحدة وتماسك المجموعة المشتركة، بما يقتضي رفض كل أشكال التنوع الثقافي والخصوصيات الإثنية ضمن القوالب العمومية. وكما يُبين المؤرخ الفرنسي «فرناند بردويل» في كتابه «هوية فرنسا»، فإن ثورة 1789 لم تغير نوعياً منطق البناء المركزي للأمة الذي بدأ مع لويس الرابع عشر وإنما أعادت صياغة إطلاقية الدولة وفق السردية الأيديولوجية الجديدة القائمة على كونية حقوق الإنسان. فرنسا اخترعت نظام الجمهورية الذي لا يؤسس وحدة الكيان الجماعي على محددات عضوية (عرقية أو ثقافية)، وإنما على كونية المواطنة المتساوية منظورٌ إليها من زاوية المشاركة في المجال العمومي. ثانياً: النظام اللائكي في ضبط المسألة الدينية، وهو نظام فريد يختلف عن العلمنة المجتمعية المشتركة بين كل البلدان الأوروبية والغربية. اللائكية هي نظام قانوني ينيط بالدولة المركزية مهمة حفظ المجال العمومي من تدخلات الأديان باعتباره فضاءً مشتركاً تحكمه قيم عقلية كونية. اللائكية الفرنسية وإنْ كانت لا تحارب الدين أو تعاديه، إلا إنها تحول دون بروزه في المجال العمومي بما يقتضي الحفاظ على ذراع قوية للدولة في مواجهة حركيّة المجتمع الأهلي. ثالثاً: مركزية السياسة بصفتها الإطار العام للفاعلية الاجتماعية، فعلى الرغم من السمة المشتركة بين المجتمعات الحديثة التي تلتقي في عملية التمايز التخصصي في هيكل الدولة، فإن الحالة الفرنسية أفضت إلى تضخم الجهاز الإداري للدولة، الذي هو التجسيد المؤسسي لمفهوم «المنافع العمومية» في غياب وسائط لتجسيد فكرة الجمهورية غير المتعينة التي هي مقوم الهوية القومية المندمجة. إن أزمة الهوية الفرنسية الراهنة ناتجة عن انهيار النموذج الجمهوري العلماني الذي شكَّل تميز فرنسا الحديثة. هذه التحولات الفرنسية جاءت نتيجة لعوامل بنيوية عميقة، ومن الخطأ تحميل الإسلام والمسلمين مسؤوليتها.