لماذا وحدة الإيمان والممارسة الرائعة بين الحجاج، والتي يقابلها على الطرف الآخر في العلاقات بين الدول الإسلامية الرئيسية تفكك وصراع؟ الخلاف بين الدول -جميع الدول- سمة عصر العلاقات الدولية المعولمة، لكن المهم هو وجود آليات لمناقشة واحتواء هذه الخلافات، وهذا ما تفتقر إليه الدول الإسلامية. وبينما يتم نشر هذه المقالة، يكون حجاج بيت الله الحرام قد أنجزوا أكثر من نصف مناسك فريضة الحج. في العام الماضي تقول الإحصائيات إن أكثر من 2 مليون من 177 دولة وصلوا إلى المملكة العربية السعودية لأداء هذه الفريضة، والتي يدخر من أجلها ملايين المسلمين من الفقراء، ونرى على وجوه الكثيرين مشاعر السعادة والبهجة رغم عناء السنين ومتاعب الترحال. وصول هذا العدد الضخم في فترة وجيزة هو تحدٍّ لأي إدارة حكومية، يتطلب المزيد والمزيد من التنظيم، خصوصاً عندما يسيطر الحماس المفرط على الكثير من الحجاج، فيقعون في فخ التدافع والدهس تحت الأرجل. في اليوم الأول من حج العام الماضي أدى هذا التدافع إلى موت ما لا يقل عن 717 حاجاً وإصابة 8630 آخرين، لكن كما قال لي أحد الحجاج البنغال، فإنه كان يود أيضاً الاستشهاد وأن يُدفن في تلك البقعة الطاهرة. هذا الإيمان والتلاحم بين أناس من دول مختلفة وقوميات متعددة، لم تتم حتى الآن ترجمته إلى قوة سياسية على المستوى الدولي. يقترب عدد المسلمين حالياً من ربع سكان العالم موزعين على دول مختلفة من إندونيسيا في الفضاء الآسيوي إلى تجمعات كبيرة في أميركا اللاتينية، ولا ننسى انتشارهم بين الأميركيين السود، حيث عكس قوتهم بكل وضوح الملاكم العالمي المحبوب محمد علي كلاي. بل إن عدد المسلمين في فرنسا مثلاً يجعل من الإسلام الديانة الثانية بعد المسيحية. إنها قوة جماهيرية ضخمة على مستوى العالم، من شرقه إلى غربه، وفعلاً أوحت هذه القوة الجماهيرية لبعض زعماء العالمين الإسلامي والعربي بالاحتكام إلى المسلمين كقوة سياسية. فمثلاً منذ أكثر من 63 عاماً، عندما وصل عبدالناصر إلى الحج في مستهل حياته السياسية، أثار طواف الجماهير الإسلامية الذي لم يكن بهذا العدد الذي نراه اليوم، خياله السياسي، ليؤسس «الدائرة الإسلامية» ضمن ركائز نظرية الدور المصري في السياسة الخارجية. لكن عبدالناصر تزعم الفكر القومي العربي وليس الإسلامي على المستوى الإقليمي، وعلى المستوى الدولي انضم إلى الزعيم اليوغسلافي تيتو والزعيم الهندي نهرو، ليقودوا حركة عدم الانحياز في الحرب الباردة بين الكتلتين الشيوعية والرأسمالية، بينما انضمت إيران وباكستان وتركيا إلى نظم الأحلاف الغربية، واعتبر كل من التوجهين المتعارضين أنه يدافع عن مصالح العالم الإسلامي، فتوجُّه عدم الانحياز أصر على أنه بعدم الاشتراك في الأحلاف العسكرية الغربية إنما يمنع عودة الاستعمار الغربي من الشباك بعد خروجه شكلياً من الباب، بينما أصر معسكر المتحالفين مع الغرب ضد «الشيوعية الملحدة» أنهم يمتنعون عن السلبية في مكافحة عقيدة مسيطرة لا دين لها. اعتقد كثيرون أن انقسام دول المسلمين هذا ما هو إلا انعكاس لمؤامرة أجنبية ضدهم للاستفادة منهم ومن ماردهم أثناء الحرب الباردة، لكن سنة 1989 شهدت نهاية هذه الحرب الباردة، ثم انهار الاتحاد السوفييتي واختفى. لماذا إذن لم تقم قائمة للعالم الإسلامي على المستوى الدولي؟ الحقيقة أنه إذا كان هناك تجمع وتلاحم على مستوى الأفراد، فإن الخلاف السياسي يسود بين بعض دولهم ذات التأثير في المجموعة ككل. الخلافات السياسية في العلاقات الدولية ليست ظاهرة نادرة، ونراها في أقوى صورها أخيراً في تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي. لكن هذا «الطلاق» البريطاني الأوروبي لم يؤدِّ إلى إهانات متبادلة أو قطيعة، بل هناك اتصال وتواصل لتطبيق آليات تسمح بهذا «الطلاق» مع بقاء الجسور مفتوحة في القطاعات الأخرى وبين جموع الأوروبيين والبريطانيين. ألسنا بحاجة إلى أن نستوحي الحج لتطوير مثل هذه الآليات لحل الخلافات داخل العالم الإسلامي، خصوصاً في وقت يتحتم فيه على المسلمين مواجهة موجات الإسلاموفوبيا المتصاعدة؟