يملك القاضي سلطة تقدير العقوبة التي يقضي بها على المتهم بالنظر إلى ظروفه الشخصية، كماضيه، وجهله بالقانون، أو ظروف ارتكابه الجريمة، كقلة الضرر الناجم عن ذلك وإمكانية إصلاحه. ورغم أن البيئة عنصر أساس في تشكّل أفكار الإنسان وتصوّراته وسلوكه، فإن هذا العنصر مستبعد عند تقدير العقوبة، رغم أن ما نشأ عليه المتهم ظرفٌ يتعلق به أكثر من تعلّق ماضيه به، وإذا وضع القاضي في اعتباره ذلك العنصر، فهو يعود إلى البيئة التي ينتمي إليها هو نفسه، خصوصاً إذا كان المتهم ابن ثقافة أخرى. استياء الدانماركي من نزع حجاب امرأة، يقل غالباً عن استياء العربي، فهذا الفعل مستنكر في الدانمارك لأنه اعتداء على الحرية، لكننا ننظر إليه كأنه اعتداء على الحرية والشرف والعرض والأخلاق وتعاليم السماء. وموقف الدانماركي سيختلف لو كان على تماس بالثقافة العربية والإسلامية، وكان يتصوّر أبعاد الحجاب والمعاني التي ترتبط به لدى المسلمة. وإذا كان مختلف الثقافات يتفق على بشاعة القتل، والاغتصاب، وشهادة الزور، فبعض الأفعال قد تكون مستهجنة في بعض الثقافات دون بعضها الآخر، كتعدد الزوجات في أوروبا، أو إقامة علاقة خارج إطار الزواج في بلد عربي، وبعض الأفعال تكون مدانة لدى الجميع لكن بدرجات متفاوتة، كما في مثال نزع حجاب امرأة تسير في الشارع. وأعود إلى القاضي الذي يقيس ظروف المتهم بالبيئة التي ارتكب فيها الجريمة، فهل قياسه هنا يحقق الغرض من منحه سلطة تقدير العقوبة بناء على الظروف الشخصية للمتهم، والتي كان للبيئة التي نشأ فيها الدور الأكبر في تشكّلها؟ وإذا عُرض عليه متهم من أبناء بيئته قتلَ بدافع الشرف، وكانت هذه البيئة تريق الدماء دون العرض، وعرض عليه متهم بالرشوة ينتمي إلى بيئة تعد هذا الفعل ضرورة في التعاملات اليومية، ففعل أيهما سيكون أقرب لتفهّم القاضي رغم أن الاثنين متأثران بالبيئة التي تربيا فيها؟ وإذا كان هذا السؤال ملتبساً نظراً إلى اختلاف نوع الجريمة، فلنطرح هذا السؤال: «إذا كانت بيئة القاضي تنظر إلى الرشوة باعتبارها عاراً عظيماً، ثم عرض عليه متهم بالرشوة من أبناء بيئته، ومتهم آخر بالرشوة من بيئة لا تستقبح هذا الفعل كثيراً، فهل سيكون عادلاً إذا ساوى بينهما في العقوبة؟» وهذه المسألة لا تمس من قريب أو من بعيد مبدأ المساواة أمام القانون، أو عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون، أو مسؤولية أن على من يدخل بلداً مراعاة النظام العام والآداب العامة فيها، بغض النظر عن الأنظمة والآداب المرعية في بلده، وإنما الكلام في أن القانون يعطي القاضي سلطة تقدير العقوبة بالنظر إلى ظروف المتهم، لكن القاضي غالباً لا ينظر إلى بيئة المتهم، رغم أنها من مفردات ظروفه وعناصرها، بل أهمها على الإطلاق. هذه المسألة قد لا تكون مهمة في الدول المتقوقعة على نفسها، لكنها ليست كذلك في الدول التي تستقبل الملايين من أبناء الثقافات المختلفة، ومن الشطط بطبيعة الحال تكليف القاضي الاطلاع على ثقافات الأرض، لكن إن حاول فعل ذلك، أو أخذه في اعتباره إذا أُثبت لديه، كان أقرب للعدل، والذي هو الغاية من القضاء.