بعد أن تكالبت الفضائح والخلافات الداخلية على حكومتهم وعجلت بإسقاطها، وبدا كما لو أنهم فقدوا آخر الحظوظ والفرص في الحكم، فاجأ المحافظون في كرواتيا أنفسهم (قبل أن يفاجئوا الآخرين) في الانتخابات التشريعية الأسبوع الماضي، حيث استطاعوا، بقيادة «أندريه بلينكوفيتش»، تصدر نتائج الاقتراع. ورغم الآثار الثقيلة لأزمات الحكومة المحافظة المنصرفة، قاد بلينكوفيتش حزبه «الاتحاد الديمقراطي الكرواتي» إلى نصر غير متوقع، وفي ظروف بالغة السوء بالنسبة لوسط اليمين. فمن هو بلينكوفيتش؟ وما مهامه وحظوظ نجاحه على رأس الحكومة المرتقبة؟ أندريه بلينكوفيتش، دبلوماسي ومحامي وبرلماني وسياسي كرواتي وزعيم حزب «الاتحاد الديمقراطي الكرواتي»، مولود عام 1970 في زغرب، وهناك حصل على الثانوية العامة عام 1988، ثم تخرج بشهادة البكالوريوس في القانون من جامعة زغرب عام 1993، ونال درجة الماجستير في القانون الدولي من الجامعة ذاتها عام 2002، وانضم في العام ذاته إلى نقابة المحامين الكرواتيين. وكما غلبت النزعة الأوروبية على التوجهات السياسية لبلينكوفيتش، فقد غلب المسار الدبلوماسي على سيرته المهنية. فمنذ أن كان طالباً في الجامعة، كان بلينكوفيتش مهتماً بعملية اتخاذ القرار داخل النادي الأوروبي، وقد شارك في عضوية العديد من الروابط الطلابية الأوروبية، وأسهم في الكثير من المؤتمرات والندوات عبر أوروبا، وتطوع للترجمة في عدة مشاريع أوروبية، كونه يجيد الكرواتية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية. ثم كانت أطروحته للماجستير حول «الذاتية في الاتحاد الأوروبي وتطوير السياسة الخارجية والأمنية المشتركة»، تحت إشراف «بوديسلاف فوكاس»، قاضي المحكمة الدولية لقانون البحار في هامبورغ. وفي الجانب الدبلوماسي من تجربته، انضم بلينكوفيتش إلى وزارة الشؤون الخارجية الكرواتية عام 1993، كمستشار برتبة سكرتير ثالث. ثم أصبح سكرتيراً ثانياً عام 1995، ورئيساً لموظفي نائب وزير الخارجية لشؤون التكامل الأوروبي، وتمت ترقيته في العام التالي ليصبح سكرتيراً أول، والتحق بقسم التحليلات في الوزارة، ليحصل في العام ذاته على منحة تدريبية في الأكاديمية الدبلوماسية التابعة للوزارة. اجتاز بلينكوفيتش بنجاح مسابقة الوظيفة العمومية عام 1997، وأصبح في العام ذاته مديراً لإدارة التكامل الأوروبي، ثم عُيِّن عام 1999 مستشاراً دبلوماسياً لدى وزير الخارجية «ماتي غرانيس». وعمل في العام التالي منسقاً وطنياً لـ«مبادرة أوروبا الوسطى» وترأس مجموعة الدعم المساندة لفريق المفاوضات الكرواتي حول «اتفاق الاستقرار والشراكة»، وهو معاهدة وقعت بين الاتحاد الأوروبي والدول المرشحة لعضويته، لتسهيل عملية انضمامها. وفي 2002 تم تعيين بلينكوفيتش نائباً لرئيس بعثة كرواتيا لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، ثم انتقل إلى فرنسا عام 2005 نائباً للسفير الكرواتي فيها. وبعد ثماني سنوات من الخدمة الخارجية، عاد بلينكوفيتش إلى زغرب ليصبح وزير الدولة للتكامل الأوروبي لدى وزير الخارجية «غوردان ياندروكوفيتش». وخلال الانتخابات البرلمانية في ديسمبر 2011، كان بلينكوفيتش أحد مرشحي «الاتحاد الديمقراطي الكرواتي» في الدائرة السابعة بزعرب، حيث انتخب عضواً في البرلمان وشغل عضوية العديد من اللجان النيابية. كما ترأس الوفد الكرواتي إلى اللجنة البرلمانية المشتركة مع البرلمان الأوروبي، قبيل انضمام كرواتيا للاتحاد الأوروبي. وفي يونيو 2013 أصبحت كرواتيا، الجمهورية اليوغوسلافية السابقة التي نالت استقلالها عام 1991، العضو الـ28 في الاتحاد الأوروبي، وباتت أول وآخر دولة تنضم للاتحاد منذ انضمام بلغاريا ورومانيا عام 2007، بعد جهود ذاتية لإحلال الديمقراطية بذلتها على مدى عشرين عاماً. وما أن بدأ التحضير لأول انتخابات برلمانية أوروبية تشارك فيها كرواتيا، حتى أبطل بلينكوفيتش عضويته في البرلمان الكرواتي، في أبريل 2014، لخوض الانتخابات الأوروبية في شهر مايو التالي، متزعماً قائمة «الائتلاف الوطني» بقيادة «الاتحاد الديمقراطي الكرواتي». وعضو في مجموعة «حزب الشعب الأوروبي»، تم اختياره نائباً لرئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي. لكن وسط الانتقادات المتزايدة لحكومة رئيس الوزراء المستقل، «تيهومير اوريسكوفيتش»، ونائبه الأول «توميسلاف كاراماركو»، الرئيس السابق لـ«الاتحاد الديمقراطي الكرواتي»، برز بلينكوفيتش كمرشح بلا منافس على زعامة «الاتحاد الديمقراطي الكرواتي». وبعد ثلاثة أسابيع على استقالة كاراماركو من رئاسة الحزب، حل محله بلينكوفيتش الذي حصل على 97823 من أصل 98209 صوتاً خلال المؤتمر الوطني للحزب في17 يوليو 2016. وابتداءً من تلك اللحظة تعين على بلينكوفيتش قيادة حملة حزبه للانتخابات البرلمانية المقررة في غضون أقل من شهرين. وأعلن أن حزبه لن يدخل في أي ائتلاف انتخابي على الصعيد الوطني، لكنه قد يتعاون في بعض الدوائر مع بعض الأطراف. ولدى إعلان النتائج شبه النهائية للانتخابات التشريعية، الاثنين الماضي، اتضح أن «الاتحاد الديمقراطي الكرواتي» يتصدر الأحزاب والائتلافات بحصوله على 61 مقعداً من أصل 151، مقابل 54 لمنافسه «الائتلاف الشعبي» بقيادة «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» الذي كانت استطلاعات الرأي ترجح فوزه بالانتخابات. وطوال الأيام الماضية الأخيرة، أجرى بلينكوفيتش، بوصفه المرشح المفترض لتشكيل وقيادة الحكومة القادمة، لقاءات بقادة القوائم المستقلة وزعيم حزب «الجسر» (موست) القريب من الكنيسة الكاثوليكية، والفائز بـ13 مقعداً، وكان مشاركاً في الحكومة المنصرفة، قبل أن يختلف مع القيادة السابقة لـ«الاتحاد الديمقراطي الكرواتي». لكن «الجسر» يبدو أكثر استعداداً للمشاركة في حكومة جديدة يشكلها بلينكوفيتش. ويحظى هذا الأخير بدعم مبدئي من الأقليات الممثلة بثمانية نواب، ضمنهم ثلاثة نواب من الأقلية الصربية التي تشترط بالأساس خلو الحكومة الجديدة من «زلاتكو هاسانبيجوفيتش»، وزير الثقافة في الحكومة المنصرفة. فقد أضر بتلك الحكومة تعيين وزير للثقافة متهم بالتشكيك في صحة الجرائم المنسوبة للنظام المؤيد للنازيين الذي أقامه «الأوساتشي»، وهم متمردون انفصاليون فاشيون معادون لليهود في يوغسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية. كما تم اتهام الحكومة ذاتها بمهاجمة الأقليات، وخاصة الصرب، لذلك تدهورت العلاقات بين زغرب وبلغراد إلى مستويات غير مسبوقة منذ حرب البلقان في تسعينيات القرن الماضي. وسبق لـ«الاتحاد الديمقراطي الكرواتي» أن فاز مع حلفائه في انتخابات مطلع العام الجاري، منهين بذلك أربعة أعوام من حكم يسار الوسط، لكن حكومة يمين الوسط لم تصمد أكثر من ستة أشهر، بسبب الخلافات الداخلية بين حزبي «الجسر» و«الاتحاد الديمقراطي الكرواتي»، علاوة على فضائح مالية وسياسية أضعفتها، فضلا عن ما وُجه لها من اتهامات باستهداف الصحافة والسماح بزيادة تأثير الكنيسة على قضايا المجتمع. وفي أجواء طبعها الفشل والتعثر، وعقب سقوط الحكومة في اقتراع على الثقة في يونيو، وجهت رئيسة الجمهورية الكرواتية، كوليندا جرابار كيتاروفيتش، في منتصف يوليو، الدعوة لتنظيم انتخابات عامة مبكرة. وجاءت انتخابات 11 سبتمبر الجاري، لتحسم المنافسة بين رئيس الوزراء السابق «زوران ميلانوفيتش» (يمين) والزعيم الجديد لـ«الاتحاد الديمقراطي الكرواتي» (بلينكوفيتش)، ولإخراج كرواتيا من أزمتها العويصة، وعلى أمل المجيء بحكومة قادرة على اجتراح الحلول والمخارج للأزمات التي أوجدتها الحكومة المنصرفة، خاصة فيما يتصل بالعلاقة مع الأقليات، ومع الجار القوي جمهورية صربيا، فضلا عن استعادة صدقية السلطة العمومية في تدبيرها للشأن العام الوطني. بيد أن صناديق الاقتراع فاجأت الجميع تقريباً، حيث منحت الصدارة لـ«الاتحاد الديمقراطي الكرواتي» الحاكم (وحلفائه السابقين)، وإن بقيادة بلينكوفيتش، رئيسه الجديد الذي توجهت إليه الأنظار وشكل قطب مشاورات مكثفة في زغرب خلال الأيام الماضية الأخيرة، حول تشكيل الحكومة ومكونات التحالف الحكومي، وخطط عمله وأولويات سياسته! فهل كان رهان الكرواتيين على هذا السياسي الصاعد في محله؟ محمد ولد المنى