حينما يتوفى الشخص الطاعن في السن، فإن مكتبة كاملة تحترق. وهذه حقيقة، فالذاكرة الملأى بالمحتويات العامة على اختلاف طبيعتها، حينما يُغيِّب الموت صاحبها فجأة، فإنها تؤثر سلباً وبشكل عميق في جوانب حياتية عدة، من أهمها جانب كتابة التاريخ الوطني، الذي يعتمد في عملية تدوينه على المرويات الشفاهية، ولا من يقوم بدور الراوي الشفاهي سوى كبار السن في القرى والضواحي نزولاً إلى قلب المدن، وفي البر نزولًا إلى الساحل. كم عدد المكتبات التي احترقت حتى الآن، في الإمارات على سبيل المثال، ولم يستفد منها بطرق بحثية علمية حديثة؟ إنها كثيرة، حينما تحسبها على مدى الخمسة والأربعين عاماً الماضية، هي عمر الدولة، كثيرون هم الشوّاب الذين انتقلوا إلى رحمة الله، غابوا وغابت معهم كميات هائلة من المعلومات القيّمة، بعضها كان ذا أهمية كبيرة، بعضها الآخر كان خاصاً ونوعياً، يندر الحصول عليه من غيرهم. إن أمراً كهذا يطرح اليوم تساؤلاً جوهرياً: ألم يكن بالإمكان الجلوس إلى هؤلاء الشواب، والاستماع إليهم لساعات وساعات، في عملية «تفريغ ذاكرة» قبل أن يرحلوا ويتركوا فراغاً معرفياً؟ نعم.. كان بالإمكان القيام بذلك، بإسناد هذه المهمة «الوطنية» رفيعة المستوى، إلى مؤسسة يقوم عليها باحثون متخصصون مؤهلون، يتوافرون على خبرة مشهودة، ويحبون عملهم، قبل كل شيء، ويتفانون في إتقانه، وتُرصد لهم ميزانية كريمة تليق بمستوى طبيعة المَهمَة، بصفتها واحدة من أهم المشاريع الاستراتيجية حيوية، التي تحرص عليها الدول الناهضة الواعدة، حديثة التأسيس. وليت المؤسسة التي نتحدث عنها، إذا ما رأت النور، تكون من حيث المستوى والدقة والصرامة في العمل، شبيهة بمؤسسة (مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية) في العاصمة أبوظبي، الذي أصبح علامة فارقة ليس فقط في الإمارات، بل على مستوى المنطقة العربية والشرق الأوسط. إن التنافس في مجال المؤسسات الأفضل والأقوى، تنافس إبداعي شريف، يفيد منه الوطن والمواطن في الراهن والمستقبل. وهذا كله كان ممكناً أن يكون بالأمس، لكنه أيضاً ما زال ممكناً اليوم ليصبح واقعاً ملموساً بقرار غيور من تلك القرارات التاريخية، التي عودنا عليها المسؤولون في الإمارات، حيث لا تردد حينما يتعلق الأمر بتاريخ وطن. لماذا نأخذ من دولة الإمارات مثالاً في هذا السياق؟ لأنها مازالت أرضاً بكراً، فيها الكثير الذي ينتظر من يقترب منه، ليكشف عنه ويكتب حوله، فتحت كل حجر قصة، وفي كل وادٍ ألف حكاية وحكاية. إن مجموع ما يجري نشرهُ من مؤلفات في العام الواحد، في الإمارات، يتراوح بين 1200 و1500 عنوان، ليس بينها من الكتب التاريخية، سوى عدد محدود يفيد منه الأبناء، من بينها بعض ما كتبه المرحوم الأديب الباحث أحمد راشد ثاني. على أن أغلب المؤلفات التاريخية التي يعتد بها حتى الساعة، في الإمارات والمنطقة الخليجية، هي مؤلفات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فهي تنطوي على قيمة علمية ومعرفية كبيرة، إن لجهة المعلومة، أو لجهة المعالجة والسياق، غير ذلك، يشعر المرء إنه في مواجهة شبه فراغ.. شبه قطيعة مع الماضي - لا سمح الله - حتى وإن كان أمساً قريباً، وليس أمساً بعيداً موغلاً في الزمن، فمن يطلق الرصاص على الماضي، يُطلق المستقبل عليه مدافعهُ.