وصلتُ إلى الولايات المتحدة كمراسل لمجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية في 1996. وعلى غرار كثير من الصحافيين الشباب القادمين من أوروبا، راعني على الفور التفاؤل الكبير والمعدي الذي يسود البلاد، إذ على رغم أن الولايات المتحدة كانت تعاني من التفاوت والانقسام كبلدي بريطانيا، فإنها كانت مختلفة عنها كلياً من حيث ذلك الموقف الإيجابي الذي ينظر للمستقبل بتفاؤل وثقة، حيث كان كل الأميركيين تقريباً ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم من «الطبقة المتوسطة»، وكانوا يعتقدون، من دون أن يطلبوا أدلة على ذلك، أن الأمور في تحسن -أو أنها إذا لم تكن كذلك، فإنها ستتحسن. وكان يبدو كما لو أن البلد برمته قد خضع لدورة في علاج السلوك الإدراكي تجعل المرء يشعر بالتفاؤل، على كل حال. وبعد مرور عقدين، يواجه الأميركيون اليوم خطر الوقوع في عقلية معاكسة تماماً، حيث اختفت مشاعر التفاؤل التي كانت سائدة خلال فترة رونالد ريجان الذهبية وحلت محلها خطابات دونالد ترامب البائسة حول ولايات متحدة «تخسر»، حيث يتم الركون للتهويل وتضخيم التحديات الحقيقية التي تواجهها البلاد من قبل خطاب عام سامٍ يركز على الأمور السلبية. وإلى حد ما، يمكن القول إن المزاج العام الجديد لا يخلو من فوائد، إذ حان الأوان بالفعل ليواجه الأميركيون الركود الطويل في مداخيل الطبقة المتوسطة الذي يعود إلى السبعينيات، كما أنه من المهم جداً أيضاً تأمل مؤشرات بحث أنجزه «نيكولاس إيبرستادت»، الذي يوثق كتابُه المقبل معاناة 7 ملايين رجل في أوج سن العطاء خرجوا من القوة العاملة ومن سوق العمل، ومن المهم أيضاً مقاومة مشاعر تشاؤم عنيدة يمكن أن تصيب الثقافة الأميركية. وعليه، فإذا كان ترامب وأمثاله يرغبون في جعل أميركا عظيمة من جديد، فعليهم ألا يبخسوها قدرها، وعليهم ألا يصوّروا الهجرة على أنها خطر مستطير يهدد البلاد -ليس البلاد التي بنيت من قبل مهاجرين، وليس في وقت تشير فيه كل الدراسات إلى أن وجودهم نعمة للاقتصاد، وفي وقت لا يعدو فيه «تدفق» المكسيكيين الذي يتحدث عنه البعض وهماً لا علاقة له بالواقع، حيث تشير الإحصائيات إلى أنه بين 2009 و2014 كان عدد المكسيكيين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة أقل بكثير ممن عادوا في الاتجاه المعاكس، وبالتالي فإن ترامب إنما يحرض على الغضب من مشكلة لا وجود لها في الواقع. كما يجدر بترامب وأنصاره ألا يقولوا إن التجارة تقضي على أرزاق الأميركيين -ليس في وقت ظلت فيه الواردات كحصة من الاقتصاد الأميركي راكدة تقريباً على مدى العقد الماضي، وليس في وقت تقلص فيه عجز الميزان التجاري للبلاد مع بلدان أخرى إلى النصف. وعلى سبيل المثال، فإن الشراكة عبر الهادي المقترَحة مع شرق آسيا، التي لا ينتقدها ترامب فحسب ولكن هيلاري كلينتون أيضاً، من شأنها أن تعزز الدخل الوطني بما يقدر بـ77 مليار مليار دولار سنوياً، ثم إنه حتى إذا كانت ثمة أسئلة مشروعة بشأن من سيفوز ومن سيخسر من الاتفاقيات التجارية، فإنه ما من سبب لتصوير الشراكة عبر الهادي على أنها مؤامرة هدفها الإضرار بالمواطن العادي. ولنتأمل السبب الجوهري للاستياء الشعبوي: ركود مداخيل الطبقة المتوسطة، فمنذ ارتفاع سُجل في أواخر التسعينيات، لم يعرف متوسط دخل الأسر الأميركية أي زيادة: وهنا توجد مشكلة حقيقية في الواقع، ولكن «مكتب الإحصاء» جاء مؤخراً بخبر سار: ارتفاع دخل الأسرة المتوسطة بـ5,2 في المئة، وهو أعلى ارتفاع يسجل في سنة واحدة، على أن المكاسب كانت أعلى من حيث النسبة بين الأسر الفقيرة حيث انخفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر بنسبة 8 في المئة. وفي عقد التسعينيات، كان سيتم الاحتفاء والإشادة بهذا التقدم بصدق، حيث كان المزاج الوطني الذي كان يجسده الرئيسُ الشاب بيل كلينتون إيجابياً وحماسياً -مثلما كان المزاجُ الذي كان يجسده غريُمه السياسي نيوت جينجريتش، فكلينتون كان يدرك معاناة عمال قطاع النسيج في ولايات الشمال الشرقي، ولكنه كان يعتقد أنه يملك حلولًا: حيث احتضن التكنولوجيا، والتجارة، والفرص التي تتيحها العولمة، واستعمل القوة الأميركية لجلب حل سلمي للحرب في البلقان. أما اليوم، فإن ترامب يبخس البلاد قدرها ويقلل من شأنها ويزدري الانخراط في شؤون العالم. ومن جانبها، تكافح هيلاري كلينتون لإيجاد الكلمات المناسبة لمواجهته. وعليه، ففي ما يلي نداء إلى ترامب وكلينتون: إن جزءاً من حل التحديات التي تواجه البلاد يكمن في انتهاج سياسات أفضل حيث يتعين على الحكومة، مثلًا، أن تقوم بأشياء أكثر من أجل الأفراد الذين يعيشون على رواتبهم، ولكن جزءاً فقط من الحل يكمن هناك، لأن الحقيقة هي أن الحكومة قامت بأكثر مما يُحسب لها في الواقع، ومع ذلك، فإن الشعور العام بسوء الأحوال مستمر، والحال أنه في السنوات الماضية ساعدت التعديلات الضريبية العمال ذوي الدخل المنخفض، وسمح إصلاح التأمين الصحي «أوباما كير» بتوسيع التغطية الصحية حتى تشمل ملايين الأميركيين، غير أنه بالنظر إلى الانقسام السياسي الحاد الذي يشل واشنطن، فإنه من المستبعد أن تعرف السنوات القليلة المقبلة تقدماً بالنسبة للأسر التي تعاني اقتصادياً. وعليه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كان الأميركيون لا يستطيعون حل كل مشاكلهم، فهل يستطيعون على الأقل إعادة اكتشاف موهبتهم القديمة للتعايش معها بتفاؤل؟ سابستيان مالابي زميل مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس»