عبر تاريخ الأمم المتحدة الممتد لأكثر من سبعة عقود منذ إنشاء المنظمة الدولية في أكتوبر عام 1945، لم تطرح قضايا صحية دولية على الجمعية العمومية، ما عدا أربع مرات فقط، الثلاث الأولى منها تعلقت بوباء الإيدز، وبالأمراض المزمنة غير المعدية، ووباء فيروس «الإيبولا». أما المرة الرابعة والأخيرة، فكانت يوم الأربعاء الماضي في مدينة نيويورك، ضمن اجتماع الجمعية العمومية الحادي والسبعين، الذي عقد برئاسة «بيتر طومسون»، والتزم فيه قادة دول العالم بتنسيق الجهود الرامية لمواجهة الأسباب الرئيسية خلف تزايد ظاهرة مقاومة الجراثيم، والطفيليات، والفيروسات، والفطريات، للمضادات الحيوية وباقي الأدوية والعقاقير الطبية التي تستخدم لعلاج الأمراض الناتجة عنها، إذا كان للجنس البشري أن يتجنب التبعات الخطيرة على صعيد صحة الإنسان، وصحة الحيوانات، وعلى قطاع الزراعة والأمن الغذائي، والاقتصاد العالمي برمته. ويأتي هذا الاهتمام غير المسبوق، على خلفية تزايد المخاطر الناتجة عن مقاومة الجراثيم للأدوية والعقاقير، وتهديدها للجهود الساعية نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهي المخاطر التي لا تستطيع دولة واحدة، أو قطاع اقتصادي معين، أو منظمة دولية بعينها، مجابهتها بشكل فردي. وأمام هذا الواقع، وقعت 193 دولة من دول العالم على الإعلان غير المسبوق، الذي استغرق التوصل إلى شكله النهائي ستة أعوام كاملة، لتؤكد دول العالم قاطبة عزمها وتضافر جهودها في مواجهة خطر تزايُد مقاومة المضادات الحيوية، وهو ما يأمل الخبراء والعلماء أن ينتج عنه إنقاذ حياة 700 ألف شخص سنوياً. وتَنتج مقاومة المضادات الحيوية من قدرة الجراثيم على التكيف والتلاؤم مع البيئة المحيطة بها، ومع العوامل السلبية التي تؤثر عليها، مثلها في ذلك مثل بقية الكائنات الحية، وإن كان بشكل أكثر مرونة وسرعة، في شكل مستمر ومتواصل من النشوء والارتقاء، وتبعاً لمبدأ البقاء للأصلح. فمن خلال تغيرات وطفرات في المادة الوراثية للجراثيم، تفقد المضادات الحيوية فعاليتها وتصبح عديمة الجدوى في قتل البكتيريا المستهدفة، أو حتى وقف تكاثرها. وبالفعل شهدت الأعوام القليلة الماضية، تزايداً متسارع الوتيرة في قدرة الجراثيم على مقاومة الأدوية والعقاقير الطبية التي يستخدمها الطب الحديث حالياً ضدها، بدرجة أصبحت تثير قلق العلماء والأطباء من تبعاتها الوخيمة. وتتجسد هذه التبعات في التقديرات بأن 700 ألف شخص يلقون حالياً حتفهم كل عام، نتيجة العدوى بالبكتيريا فائقة المقاومة للمضادات الحيوية، والمعروفة بالجراثيم السوبر (Superbugs). وحسب استشرافات مستقبلية أجرتها معاهد بحثية متخصصة، يتوقع بحلول 2050 أن تفتك هذه الجراثيم السوبر بعشرة ملايين شخص سنوياً، أي بواقع وفاة كل ثلاث ثوانٍ. وبخلاف هذا الفاقد الإنساني الفادح، يتوقع أيضاً لما أصبح يعرف بعصر ما بعد المضادات الحيوية، أن يتسبب في تكلفة باهظة على الاقتصاد العالمي، تصل في بعض التقديرات إلى 100 تريليون دولار بحلول عام 2050. ويُرد جزء كبير من ازدياد مقاومة البكتيريا لمفعول المضادات الحيوية، إلى فرط الاستخدام أحياناً، وإلى سوء الاستخدام أحياناً أخرى. ومن أشهر الأمثلة على فرط الاستخدام اللجوء إلى المضادات الحيوية في أوقات العدوى الفيروسية، التي لا تُجدي معها المضادات الحيوية نفعاً، حيث إن هذه النوعية من العقاقير فعالة فقط ضد البكتيريا، ولا تُجدي نفعاً أمام العدوى بالفيروسات. أما أشهر الأمثلة على سوء الاستخدام، فهو توقف المريض عن تكملة فترة العلاج، بعد أيام قليلة من بدئه، وبعد تراجع الأعراض وشعوره بالتحسن. ومثل هذا السلوك يمنح البكتيريا أفضل فرصة لتوليد مقاومة ضد المضاد الحيوي المستخدم، ولذا فلا بد من إكمال فترة العلاج بالمضاد الحيوي حتى آخر جرعة منه. ولا يقتصر الإفراط والإساءة في الاستخدام على العامة فقط، بل أحياناً كثيرة يكون سببه أفراد المجتمع الطبي أنفسهم نتيجة لبعض الممارسات الطبية الشائعة، التي لا تستند إلى أساس علمي. ويعتبر أيضاً فرط استخدام المضادات الحيوية في القطاع الزراعي من أهم الأسباب خلف تزايد ظاهرة قدرة الجراثيم على مقاومتها. فمن الحقائق المثيرة التي تربط عالم الطب بعالم إنتاج الغذاء، كون أكثر من نصف الاستهلاك العالمي من المضادات الحيوية يستخدم حالياً في تربية الماشية والطيور الداجنة بأنواعها المختلفة، وأحياناً ما تزيد هذه النسبة على النصف بكثير. حيث أظهر تقرير نشر عام 2001 أن 70 في المئة من المضادات الحيوية التي تنتج في الولايات المتحدة، تستخدم لتسمين الحيوانات والطيور، وفي الوقت الذي يستخدم فيه 3400 طن سنوياً من المضادات الحيوية في الأغراض الطبية في الولايات المتحدة أيضاً، نجد أن قطاع تربية الماشية ومزارع الدواجن يستهلك وحده 8900 طن سنوياً.