نظم المركز الملكي للدراسات الاستراتيجية بالرباط ندوة تحالف عاصفة الفكر في نسخته الثالثة: «نحو استراتيجية متعددة الأقطاب»، والندوة هي استكمال للمسيرة الفكرية والاستراتيجية التي كان قد أطلقها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي بمشاركة مراكز بحثية متميزة وشخصيات فكرية عربية وازنة. وموضوع هذه الدورة تناول الاستراتيجية المنشودة في أوطاننا، وهي استراتيجية تستلزم في جميع مستوياتها حساب الأهداف والمفاهيم والموارد ضمن حدود مقبولة للمخاطرة، لخلق نتائج ذات مزايا أفضل مما يمكن أن تكون عليه الأمور لو تُركت للمصادفة أو تحت أيدي أطراف أخرى. وقد أجمعنا نحن المشاركين على أن النظام العالمي اليوم لا يسمح بارتجالية وسكون بعض الدول العربية المحورية، ولا بالتشرذم والهوان، فالوحدة والقوة والمناعة هي القواعد الأساسية للوجود العقلاني بين الأمم، وهي التي تجعل من التأثير الحتمي للتحولات الدولية عليها محدوداً ونسبياً، بل وتحملها على التأثير في النظام الدولي مبادرة وعلى الحد من تأثرها بتحولاته دفاعاً. والوضع العربي خطير جداً، ونتذكر ما كان قد أكده جلالة الملك محمد السادس في القمة الخليجية المغربية الأولى، عندما أشار إلى أن المنطقة العربية تعيش على وقع محاولات تغيير الأنظمة وتقسيم الدول، كما هو الشأن في سوريا والعراق وليبيا مع ما يواكب ذلك من قتل وتشريد وتهجير لأبناء الوطن العربي.. وعلى «مخططات مبرمجة» تستهدف الدول العربية، ومؤامرات تستهدف المساس بالأمن الجماعي لدول الخليج والمغرب والأردن، التي وصفها بأنها واحة أمن، مؤكدًا أنه «يعتبر أمن واستقرار الخليج من أمن بلاده». فالمغرب دولة مستقرة ومنفتحة استطاعت أن تقطع أشواطاً في تثبيت وتجذير أسس الدولة الحديثة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأصبحت فاعلًا محورياً في أفريقيا وأوروبا والفضاء المتوسطي، وعامل ردع للإرهاب العابر للقارات بفضل حنكة مؤسسته الملكية وقوة أجهزته ومؤسساته، وتتقاسم مع دول الخليج العربي نفس القواسم ونفس المصير. ودول الخليج العربي هي واحة أمن واستقرار بفضل عوامل النمو والتنمية التي حققتها وعوامل الثقة التي تجمع الحاكمين بالمحكومين، ولكنها واحات وسط براكين إقليمية راكدة أو مشتعلة تستلزم سياسات استراتيجية مبنية على التعاون الأمني والسياسي والاقتصادي بين دول الخليج والمغرب. وقد كانت عملية «عاصفة الحزم» في اليمن مثلًا، التي تقودها دولة محورية لها ثقلها التاريخي والسياسي، من أجل دعم الشرعية في اليمن، من أولى تجليات هذه القوة الممكنة وإمكانية «مأسستها».. وقد بات من الضروري التأسيس لمعادلة استراتيجية تقوم على الشراكة وعلى المصير المشترك، وعلى تشخيص المشكلات وتجنبها قبل وقوعها أو مواجهتها استراتيجياً بما يضمن ترجمة الأغراض إلى تأثيرات تشكل البيئة الاستراتيجية على النحو الأفضل، ضامنة المرونة والقدرة على التكيف والهجوم الاستراتيجي على الأعداء والمناوئين وواضعة الحدود للوصول إلى النتائج المرجوة. وقد أجمع المتدخلون أن الإرهاب في منظومتنا العربية لا دين له ولا ملة، يأتي على الأخضر واليابس، والإرهابيون الذين يقترفون جرائمهم باسم الدين لا يمثلون الإسلام في شيء. كما أن الإرهابيين يستفيدون اليوم من فشل بعض الدول في تسيير الشأن العام وبناء نظام سياسي موحد كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا، ويستفيدون من العولمة التي تجعل الجميع يعيش في قرية واحدة وتحت سقف واحد، حيث إن منصات وسائل الإعلام الاجتماعي مثل «يوتوب» و«فيسبوك» و«تويتر» تقوم بالدعاية لإيديولوجيتهم، والتجنيد الرقمي والميداني للآلاف من الملوثة عقولهم في العالم بأسره بمن فيهم صغار السن، والتشهير بجرائمهم الوحشية مثل قطع الرؤوس، والتفاخر بأسواق الرقيق من الفتيات والنساء للتأسيس حسب زعمهم لحياة دينية مثالية في ظل قانون لا يعلى عليه! والمصيبة الداهية أن هناك اعوجاجاً في فهم الدين، وضلالًا مبيناً في فهم مقاصد الشريعة السمحة، وخلطاً بين السياسة والدين، فتعريض المصالح العليا للبلد (كالسياحة بالنسبة إلى تونس، أو محاولة تأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية في بعض البلدان) هو مطية لزرع بذور الفتنة، وفتاوى التكفير ما هي إلا الوسيلة المثلى لصناعة المغناطيس لجذب شباب المسلمين. وقد بات ضرورياً انخراط جميع الدول في سياسات إعادة هيكلة الحقل الديني، وإعادة الاعتبار للتفكير العمومي كقاطرة لتدبير قضايا التحديث في البلدان العربية، فتحصين الشأن الديني وتدبيره يعتبر من الدعامات المؤسسة للهوية الوطنية لكل دولة عربية، وهو ما يفرض على المؤسسات العليا للبلدان العربية رسم استراتيجيات دينية، إذ لا ينبغي أن يخضع هذا المجال لاستراتيجيات قطاعية أو ظرفية، محدودة الزمان والمكان، بل يجب أن ينظم وفق منظور شامل لتصل الدول بجميع أجيالها إلى بر الأمان.