تعاقب على وزارة مالية العراق عشرات الوزراء، مِن ملكيين وجمهوريين، منذ كانت ميزانيته خمسة ملايين دينار (بواقع ثلاثة دولارات للدينار الواحد)، وحتى طفرتها إلى مئة وخمسين مليار دولار، ولم يترك وزيرٌ منهم أثراً مثلما تركه أول وزير، ساسون حسقيل (ت 1932)، وها هي الثَّقة تُسحب من آخر وزير من وزرائها بتهمة فساد! نشر الوزير هوشيار زيباري، عبر الفضائيات، تحويل ستة مليارات ونصف المليار دولار إلى الخارج. صحيح، أن لجنة النزاهة أو اللجنة المالية في البرلمان، أشارت إلى هذه السرقة، لكن ليس كما يُقدمها وزير المالية نفسه. مع ذلك، يُعتبر سكوت الوزير عن الفساد تواطؤاً معه، فهو لم يذعها إلا بعد استجوابه، مثلما كان المالكي، وهو رئيس وزراء، يُهدد بكشف جرائم فساد كبرى ولم يكشفها، لأنها أوراق ثمينة، تنفع للمساومة بها مع مَن بحوزته أوراق ضده مثلاً. في كل الأحوال، من الصعوبة الدفاع عن وزير من وزراء ما بعد 2003، وذلك لالتباس المسالك، فالوزير الذي لا يفسد، تجد ذويه عاثوا فساداً. فأحد وزراء المال قبل أن يُنظم أمور الوزارة، عمد إلى إعادة أمجاد أبيه في الأراضي التي أهديت له مِن قِبل الإنجليز، ثم صادرها الإصلاح الزراعي (1959)، والتفت إلى شراء عقار فخم لذويه خارج العراق، وأتى بصهره حاجباً له، ولم يكن ثرياً ولا يحزنون قبل تقاسم الغنيمة. أما وزير المال الآخر، لما سُئل عن علاقته بإدارة المال والمصارف كي يصبح وزيراً للمالية، قال بكلِّ ثقة، إنها خبرةٌ ورثها عن أبيه ومتجره المتواضع، وهذا الرجل توزر لعدة وزارات، وعلى مختلف التخصصات، وفي كل وزارة يبرر صلاحيته لها. نعود إلى أول وزير مالية عراقي، والذي ارتبطت ببخله، كوزير، كنايةٌ بغدادية، وردت هكذا: «يحسقلها حسقيل» و«شغلة محسقلة»! أي قضية ليست سهلة (أمثال وأقوال وتعبيرات شعبية)، حتى صار اسم وزير المالية المذكور رمزاً للبُخْل. مع أن الآخرين، مِن ذوي التعصب، يطلقونها على كل يهودي عراقي، وهذا غير صحيح. فحسقيل ليس الاسم الوحيد المحصور بين اليهود، ومِن يهود العِراق محسنون، شيدوا مشاريع خيرية لأيتام وفقراء عراقيين. فما قصة بُخْل حسقيل بمالية العِراق؟ وقد أُسندت إليه حقيبتها لسنوات (1920 –1925)، وما بعدها صار رئيساً للجنة المالية والاقتصادية في المجلس النيابي. يقول ناظر الخزينة الملكية: «إن نفقات فصل البريد والبرق المخصصة للديوان الملكي سنة 1925 نفدت قبل أشهر مِن ختام السَّنة، فكانت الحرب الحجازية النجدية قائمة على قدم وساق، وكانت البرقيات تُرسل يومياً مِن البلاط الملكي لمعرفة الموقف الحربي، فكتب الديوان الملكي إلى وزارة المالية يسأل الموافقة على نقل مبالغ مِن فصل آخر في الميزانية المصدقة إلى فصل البريد والبرق» (بصري، أعلام السياسة في العراق الحديث). ويضيف ناظر الخزينة: «دخل عليَّ وزير المالية ساسون أفندي ثائراً ينتقد كثرة النفقات، ويعترض على نقل الاعتماد، وقد أسرعت إلى تهدئته وشرح الأسباب التي تبرر الطَّلب، وهو لا يزيد إلا حدةً وجدالاً. فقلت له: إن جلالة الملك في الغرفة المجاورة، ولا يفصلنا عنها سوى جدار خفيف، فاخفض مِن صوتك» (نفسه). أما الأكثر «حسقلة» وبخلاً بأموال العراق فهو الملك نفسه، لما سمع بما حدث، قال: «إنني مبتهجٌ لموقف وزير ماليتي وصلابته، فإذا كان يقف مني هذا الموقف الشديد، فأنا مطمئن إلى أنه يقف موقفاً أشد صلابة تجاه سائر الوزراء والموظفين، لأجل التمسك بالقواعد المالية السليمة، والحرص على خزينة الدولة». ويطول الحديث عن صاحب الكناية «يحسقلها»، لبراعته الاقتصادية والمالية، وإخلاصه لبلاده وشعبه. رثاه الرصافي (ت 1945) قائلاً: «تُشير إليه المكرماتُ بكفّها/ إذا سُئلت أي الرجالِ المهذبُ». ويختمها: «لئن كنت يا ساسون غيبك الرَّدى/ لذكراك بالعلياء لا تتغيبُ». صدق الشاعر، فها نحن نذكر علياء حسقيل، في زمن الفساد الخُرافي، حتى تحول اسمه إلى كناية عن البُخْل. يحضر بخل حسقيل عندما يبث نبأ سحب ستة مليارات دولار من البنك، من قِبل شخص واحد، والمئات الضائعات من المليارات، وربما ذهبت لفك الحصار عن الجار الجنب، بعد تعبئة الجيوب. لم يبق مِن آثار الوزير سوى الكناية. أما داره، الواقعة على شارع الرشيد، فقيل أُزيلت، بلا حياء وخجل، لصالحِ مستثمر سياحي! إن الفاسدين غرباء لا يؤلمهم ما أسفرت عنه سياساتهم، وإن تألموا وتظاهروا بالبكاء فشأنهم شأن البواكي المستأجرات، وللعباس بن الأحنف (ت 192هـ): «مَن ذا يُعيرك عينه تبكي بها/ أرأيت عيناً للبكاء تُعارُ» (الأصفهاني، الأغاني). نعم البخل خصلة ذميمة، إلا في أموال الدولة فهي الجُود بعينه.