ورد في العدد الأخير من نشرة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا «الإسكوا» تقرير من سلسلة التقارير الخاصة بالتنمية الاجتماعية التي تنوي إصدارها تباعاً. وجاء التقرير نتيجة دراسةِ حالة لكل من مصر، وتونس، والمغرب، بعنوان «ماذا تبقى من الربيع العربي.. مسار طويل نحو تحقيق العدالة الاجتماعية». وركزت مقدمة الدراسة على حالات الحراك الشعبي في الدول العربية التي وصلها «الربيع العربي»، وأن الاحتجاجات الشعبية لم تكن حصراً ضد أنظمة سياسية، بل أيضاً ضد التفاوت الاجتماعي المتراكم وغياب فرص العمل والتي ضاقت بها الشعوب. ورأت المقدمة أن غياب «العدالة الاجتماعية» كان قاسماً مشتركاً بين المطالب الشعبية التي نُودي بها في البلدان العربية المختلفة، وكان المفتاح الرئيس لاستيعاب الحراك الشعبي والانتقال السلمي والدستوري للسلطة. وما يهمنا أكثر في الدراسة المذكورة هو قضية «العدالة الاجتماعية» وظروفها في العالم العربي، حيث أوضحت الدراسة الأركانَ الأربعة للعدالة الاجتماعية وهي: اللامساواة في توزيع الدخل، واللامساواة في توزيع الأصول، واللامساواة في توزيع فرص العمل والعمالة بأجر، واللامساواة في توزيع الخدمات العامة والبرامج الاجتماعية. إن شعور الشعوب بالغبن وملاحظتَها استئثارَ فئة أو جماعة بمداخيل البلاد يُنميَّان لديها ثقافة السخط والشعور بالدونية والتهميش، والتمايز السلبي، وكل ذلك قد يدفع إلى تلمس أي طريق للتخلص من السلطة، أو تعكير مزاجها عبر تظاهرات سلمية أو عنيفة، لربما تؤدي إلى تخريب مظاهر البنى التحتية، أو المواجهة مع رجال الأمن. لأن الإنصاف جزءُ لا يتجزأ من المساواة، وهي حقيقة تنصُّ عليها الدساتير، ولا يوجد لها -للأسف- حضورٌ على أرض الواقع. والمساواة بحد ذاتها جزءٌ لا يجوز ابتسارهُ أو قطعهُ عن منظومة «حقوق الإنسان» التي تحثُّ على المشاركة وعدم التمييز، تماماً كما يحقق الإنصاف مبدأ «تكافؤ الفرص» الذي يضمن توافر جميع المزايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لجميع أفراد المجتمع وبشكل متساوٍ وعادل، بغضِّ النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو نفوذهم أو قدرتهم على الوصول إلى صاحب القرار. ولكن لم يتم للأسف تثبيتُ هذا المبدأ المهم في أكثر الدول العربية، التي تسودها المحسوبيةُ والمقارباتُ الاجتماعية والفروق العرقية والقبلية، حيث قد يتم الاحتكام إلى التاريخ، بشكل ماضوي مقيت، دونما النظر إلى مؤهلات الإنسان أو قدراته على الإبداع فيما يقوم به من عمل في وطنه. ومن هنا ظهر «التمايز السلبي» في بعض المناطق العربية، وسادت النظرة «الماضوية» التي تقدّسُ العشيرة على التنمية، فتفشّت الانتقائية في توزيع المهام واختيار المسؤولين، وظهرت ملامحُ التوزيع البائن للمهام بين الحاكم ومجموعة من الشرائح التي يضمن ولاءَ أفرادها، حسب قانون رئيس العشيرة/ عمدة القرية، أو رئيس الحزب، فضاعت المهنية، وتأثرت الإنتاجية بسبب فرض هذه النظرة الضيقة على كامل أوجه الحياة. وفي مناخ كهذا يكثر عادة الفساد، والنقمة، والمفاخرة بأدنى درجات الإنجاز أو الإنتاج. وإذا ما حصل نوع من عدم العدالة في توزيع فرص العمل بأجر، فإن غالبية الشعب ستتضرر، بحكم أن الغالبية قد لا تصل إلى صاحب القرار، ولربما لا تنضوي تحت مظلة رئيس العشيرة، وخصوصاً إنْ تواءَم ذلك مع عدم إشراكِ الشعب أو ممثلين عنه في القرار! ولذا، لا يجد هذا الشعب الذي يرزح تحت وطأة الفقر وغيابِ فرص العمل وتراجع الأجور إلا الثورة، ومحاولة الإطاحة بالنظام. وبالطبع توجد أسبابٌ مُصاحبة لهذا التوجه، يُمكن ملاحظتها في: استئثار الحُكم بالأمور ومقدرات البلاد، ضعف أو انهيار البنى التحتية، الفساد الإداري.. إلخ. وفي مناخ غياب «العدالة الاجتماعية» يتقهقر التعليم، وتتشوشُ المفاهيم الفكرية والممارسات المهنية كالإعلام والثقافة والعمل الاجتماعي. وقد يقوم النظام بـ«إلهاء» الشعب ببعض القشور أو الفقاعات الإعلامية: مثل تدشين بعض المشاريع الصغيرة، وتضخيمها في وسائل الإعلام، أو التباهي بالأيديولوجيات أو المفاهيم الاجتماعية التي غالباً ما تشطر المجتمع الواحد، وتنشر بينه البغضاء وثقافة التفاضل، كي تُختصر البلاد في شخص رئيس الجمهورية أو الزعيم! ولذلك، لم يحمِ الجيش أو الحرس الجمهوري وغيرهما من التشكيلات العسكرية والأمنية، التي تم الصرف عليها طوال ثلاثين عاماً من أموال الشعوب، الأنظمةَ التي تهاوت في كل من مصر، وتونس، وليبيا، واليمن، لأن الشعوب في هذه الدول انتظرت طويلاً تحقق «العدالة الاجتماعية» ولم تتحقق! وقد يكون من المفيد أن تقرأ بعض الأنظمة العربية قاموسَ «العدالة الاجتماعية» وتبادر إلى تثبيت نصوصِها على الواقع، وقايةً من الانفجارات الغاضبة.