يُعد استشراف المستقبل مسألة مهمة لدى بعض الدول وحقلاً من حقول الدراسات. مستقبل الدول بمؤسساتها وشعوبها ومجتمعاتها وصناعاتها وتشريعاتها ومواردها وقدراتها الاقتصادية والبشرية يمكن تحديده والتنبؤ به إلى حد كبير، والذي بدورهِ يجعل الدول تضع سياسيات معينة نحو الإصلاح والتطوير وتعزيز قوتها ومكاسبها في المستقبل. وتبدو دراسات المستقبل ممكنة في ظل الطفرة في مختلف المواصلات والاتصالات وسهولة الحصول على المعلومات والرصد الإحصائي الإلكتروني للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والصناعية والبيئية والأمنية على المستوى الداخلي للدول والمستوى الإقليمي والدولي العالمي. وعلى حقيقة حالة الاعتماد المتبادل العالمية، هناك قضايا عالمية مثل استنزاف الموارد الطبيعية مع الطفرة الصناعية من نفط وغاز وأخشاب ومعادن، إلخ، وحقوق الإنسان، وتطور العلوم المختلفة، والتهديد النووي على الإنسان خاصة إذا وقع في يد أنظمة غير عاقلة وعدوانية، والتغيرات المناخية، والفقر والتخلف، وتحول العالم إلى قوميات عرقية ودينية، ومسألة الأمن المائي والغذائي، إلخ.. وهذه المقدمة تفتح لنا باباً لطرح استمرار ومستقبل معضلة المجتمعات غير الآمنة وتلاشي سيطرة الدول، فمنذ «الربيع العربي»، شهدنا وما زلنا بشكل واضح ومخيف ظاهرة انعدام الأمن المنتشرة في بعض مجتمعات الشرق الأوسط، ونخص هنا جزءاً كبيراً من العالم العربي مع تركيا وإيران والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهذه الظاهرة لا تتعلق بأمن المجتمعات كسلامة وحرمة الجسد والممتلكات فقط، بل هناك تغيرات عقدية ولغوية وقومية وجغرافية، وضعف اقتصادي وتنموي وتشريعي كبير، وفقر وهجرة وحالات انتقام، فانعدام الأمن في مجتمعات الشرق الأوسط يخرج من عدة مستويات، على مستوى الأنظمة السياسية نرى بعض هذه الأنظمة تقاتل للبقاء مهما كان الثمن، ويصل الأمر إلى تدمير بعض الأنظمة السياسية لشعبها وقدراتها المادية والمعنوية، مثل نظام بشار وما حدث ويحدث في الثورة السورية القائمة، إلى جانب النظام السوري الذي أصبح ممثلاً لمصالح إقليمية ودولية، يأتي النظام الثيوقراطي الإيراني الذي خنق وقيد الحريات واستنزف المال العام لدى الشعب الإيراني وجر الكثيرين منهم وخاصة الفقراء إلى أتون الحروب والتوسع الديني المذهبي في العراق وسوريا ولبنان، فكلا النظامين «بشار والملالي الإيراني» قد أحدثا قضايا اجتماعية يمكن أن تستمر وتزداد، فقد ازداد العنف الطائفي والمذهبي بين المجتمعات، كما هناك أطفال في سورية يشهدون الدمار والموت والخراب، وربما يصبح مستقبل معظمهم هو العنف والتطرف والتخلف، ولأسباب تعود للنظامين أيضاً مع بروز الجماعات والمليشيات الدينية المتطرفة الشيعية والسنية ووقوع حوادث قتل وسبي للنساء والأطفال مرتبطة بالمعتقد الديني مع سخافة وجهل الفتاوى الدينية في الوطن العربي والإسلامي، كل ذلك، قاد إلى تزايد ظاهرة الإلحاد بشكل ملحوظ في سورية والعراق وإيران والأكراد وبعض الدول العربية. ومن يعتقد بأن ظاهرة الإلحاد مسألة شخصية للأفراد تبدو نظرتهُ قاصرة، فتزايد هذه الظاهرة في العالم العربي والإسلامي سيُولد صراعات عرقية وقومية وأيديولوجية خاصة أن هناك حالات كره ومحاربة من بعض القوميات والجماعات في الشرق الأوسط ضد العرب وتاريخهم ولغتهم، وضد الدين الإسلامي، علاوة على ذلك أحدثت إيران ومراكزها الدينية مشكلة الانتماء القطري والديني المذهبي في بعض المجتمعات الخليجية والعربية والإسلامية. وفي اليمن أتى بروز المعتقد الديني الزيدي الشيعي وصراعهِ على السلطة ودعم إيران له ليرسم الفقر والقتل والتخلف. ولنا هنا نظرة في مستقبل دور الدين في الدول العربية، بأن النجاح والتقدم والاستقرار يعتمد- لدى البعض- على أن تكون أنظمة «الدول العربية» علمانية تستخدم وتتحكم في الدين بما ينفع المجتمعات وتطورها، وعليها أن تعيد قراءة وتصحيح وتغيير الكثير من موروث الفتاوى والتشريعات الدينية. ظهور مجتمعات غير آمنة وتلاشي سيطرة الدول أمران يعكسان تنامي الهويات العرقية والدينية، التي يتم استغلالها من قبل دول أخرى لمصالح خاصة بها، ومن المثير في أمر الهويات كون هوية دولة إسرائيل دائماً تحتاج إلى الهوية الفلسطينية العربية، فهذا الصراع يعزز من قوة الكيان الإسرائيلي، وربما عملية السلام وإقامة دولتين يمثل ضعفاً للمعتقد والهوية الإسرائيلية على المدى المتوسط، كما أن الهويات الأخرى في الشرق الأوسط ترسم مناطق جغرافية غير مستقرة مثل القومية الكردية وصراعها في تركيا وسوريا وإيران. أما في العراق، فهناك النموذج بحكومة وإقليم كردستان العراق، والحلقة مستمرة، فالعراق يعيش صراعاً طائفياً بين الهوية الشيعية التابعة لنظام إيران الملالي وقُم مقابل الهوية السُنية والكردية، علاوة على ذلك، تعاني لبنان من تغيرات في قوى التركيبة السكانية والهوية الاجتماعية، فهنالك عمليات مبرمجة لزيادة عدد الشيعة وتمركزهم في العاصمة بيروت إلى جانب هجرة الكثير من المسيحيين والمسلمين السُّنة من لبنان، فالوضع الداخلي في لبنان سيسفر عن صراع طائفي كبير، حيث يمتلكون «الشيعة» القوة العسكرية بحزب الله والحزبية السياسية والمال الإيراني والعراقي، والأمثلة على الهويات كثيرة مثل الأمازيغية، فهذه الهويات تدور حول المستقبل من التقسيم الجغرافي والإداري في نظام دول جديدة أو الاتحاد الكونفدرالي إلى التوسع في النفوذ والسيطرة. ومن أسباب استمرار معضلة المجتمعات غير الآمنة في الشرق الأوسط، استمرار النمو السكاني بصورة كبيرة مع ضعف التطور الاقتصادي والتنموي وتفشي ظاهرة الفساد، عاكساً بيئة لبروز الهويات العرقية والجماعات الدينية المتطرفة مع الفقر والجريمة، فالزيادة السكانية تحتاج إلى تطور وتنفيذ التشريعات والقوانين الخاصة بالمجتمعات وقضاياها، كما يجب أن تكون هناك تشريعات وخطط اقتصادية وتجارية تشجع على الإصلاح والاستثمارات واستغلال المتاح، إلى جانب توفر الأيدي العاملة: المهارة والعقول البشرية. بين الحاضر والمستقبل هناك حيز كبير للدول العربية والشرقية بأنظمتها ومؤسساتها وأحزابها وعقولها ومجتمعاتها بأن ترسم مستقبلاً للحياة الكريمة والأمن والتطور الاقتصادي والاجتماعي، وأن تقضي على هذه المعضلة.