هناك مشكلات ثارت في العالم العربي إثر الصراع بين الثورة والقوى المضادة لها في السنوات الأخيرة، ولكن توجد مشكلة أعمق وأعقد من هذا، وتمتد لعقود من الزمن، وهي تتعلق بالأيديولوجيا بوجه خاص، فإشكاليات «الأصالة والمعاصرة، العروبة والإسلام، التراث والثورة، الاستقلال والتبعية، الدين والدنيا، الدين والدولة، إلى غير ذلك من إشكاليات ما هي إلا تجسيد للفراغ أو الضياع الأيديولوجي، أو الثقافي الذي نجد فيه أنفسنا، كأمة يفترض فيها وحدة الوعي كتعبير عن وحدتها ذاتها. وانشغال الذهن العربي بهذه الثنائيات جعل للجدال الأيديولوجي مكانة مهمة ضمن دائرة الإنتاج الفلسفي العربي المعاصر، وأخذ يغذي، أكثر من غيره من الاهتمامات الفلسفية الأخرى، مجال الفلسفة المعاصرة. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر أثير في الفكر العربي جدل متواصل بين دعاة الإصلاح السلفي والإصلاح الليبرالي، ثم ممثلي الاختيار القومي والاختيار الاشتراكي، وتقاطعت كل هذه التيارات عند نقطة الاهتمام بمسألة تخلف المجتمعات العربية، وسبل نهضتها. وإذا كانت الأيديولوجيات العربية قد ولدت في نهاية القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين من رحم الانشغال بثنائيات فكرية عميقة، فإن الخلاف حول هذه الثنائيات لم يحسم بعد، الأمر الذي جعل البيئة الفكرية والسياسية العربية مهيأة دائماً لإنتاج وعي بالأيديولوجيا. لكن هل أثمر هذا الزخم الأيديولوجي شيئاً إيجابياً؟.. يبلور برهان غليون المشهد الفكري برمته في نهاية القرن العشرين في العالم العربي بعد طول تجريب للأفكار والمشروعات السياسية والتفاعل مع «الآخر» حين يقول: «فقدت الحداثة مضمونها كممارسة معقدة متعددة الجوانب والأبعاد النظرية والعملية لدمج المكتسبات الإنسانية في الثقافة والمجتمع، وتحولت هي نفسها إلى عقدة بديلة عن الدين ومنافسة له في تقديم المرجعيات والقيم الروحية وغير الروحية. وفقد الدين كذلك معانيه الروحية والزمنية وتوازناته الذاتية، وأصبح يطالب، كرد فعل على يد الجماعات الجديدة، باحتلال المجال الروحي والمادي معاً، والتحول إلى المصدر الوحيد للقيم العلمية والقيم الروحية على حد سواء. وبدل أن يكون راعياً للعقل ومحفزاً على استخدامه، صار يضع نفسه منافساً له، وبدل أن يكون منبع القيم الإنسانية العالمية، أصبح رديفاً للقومية ورمزاً للخصوصية، فلم يعد هناك مجال للاجتماع بين الأصالة والمعاصرة، ولا بين الدنيا والدين. أما الحداثة التي تحولت إلى مذهب بدلًا من أن تكون ممارسة وتجربة وعملية نشطة لتغيير شروط الإنتاج النظري والمادي، وتحسين ظروف حماية الذات وازدهارها وتطورها، فصارت نفياً للذات، أو تعبيراً عن ذات مغايرة، وتحولت بعد أن فقدت معناها ومفهومها الفعلي إلى مذهب ديني يميز النخبة عن الجمهور العام، ويبني على هذا التميز شرعية سلطة اجتماعية هي أبعد ما تكون من حيث القيم الحقيقية السائدة فيها، عن الحداثة. وهكذا أصبح الاستبداد الأعمى رمزاً لحداثة دولة ليس لها من مقومات الدولة أو مشروعيتها إلا قوة القهر والعنف المتبلور سياسة وخطة قومية». وهذا التشخيص قد يصلح لوصف مجتمعات عديدة في عالمنا المعاصر، ولكن التعمق فيه يقود إلى اقتناع تام بأنه يرسم ملامح الوضع الفكري والأيديولوجي العربي حالياً على وجه الخصوص. وهنا تظهر الحالة السيئة التي كان عليها العرب قبل اندلاع الانتفاضات والثورات. ففي المبتدأ لا يوجد تنظير سياسي حقيقي، بقدر ما هو نقل مشوّه، يصل أحياناً إلى حد الاجترار الأعمى، لما أنتجته قرائح أخرى. وفي الخبر لا توجد ممارسة تقوم على الحوار والتسامح والإيمان بتلاقح الأفكار ووجود نقاط التقاء بين التيارات الاجتماعية، تفرضها التحديات والقضايا المشتركة، ناهيك عن المعين والمصير المتشابه، أو الواحد كما يعتقد البعض. ويغذي التاريخ هذه الانغلاقية، فمن عشائر متناحرة تدعي كل منها أنها الأكثر شرفاً ومهابة وأحقية في السيادة، إلى فرق متقاتلة تزعم كل منها أنها «الناجية»، وصولاً إلى أحزاب شكلية ليس بينها حوار سياسي حقيقي والتزام بقواعد ممارسة عادلة وشريفة. وهناك من يدعو إلى أيديولوجية مغايرة للخروج من هذا المأزق، ولكن يبدو الحديث عن أيديولوجيا في ظل هذا الواقع المتشظي والمعقد، أمراً غير عملي، خاصة أن العرب جربوا شتى الأيديولوجيات ولم تفلح في إخراجهم من كبْوتهم، لكن الشيء الضروري هو تحديد معالم واضحة لإطار فكري مرن يحكم الحركة السياسية العربية. وهنا تظهر أهمية «القيم السياسية»، التي تقدم نفسها ليس بوصفها جزءاً من تكوين أيديولوجي، بل بكونها منظمة مستقلة تتخلى عن الأوهام التي تحلق بالأيديولوجيين، وترفض الوظيفة التبريرية للأيديولوجيا.