وضعَ البريطانيون بلدهم في مأزق حقيقي بعد أن صوتوا في شهر يونيو الماضي لصالح خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، حيث ازداد الأمر تعقيداً مؤخراً بعد أن اتخذت المحكمة العليا هناك قراراً يلزم الحكومة بأخذ موافقة البرلمان قبل تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، والخاصة بانسحاب أحد الأعضاء من الاتحاد، وهو ما حدث فعلاً بعد أن أعطى مجلس العموم الضوء الأخضر للحكومة للمضي قدماً في تفعيل هذه المادة بشرط عرض نتائج التفاوض مع بروكسل على البرلمان مرة أخرى لأخذ موافقته على الخروج النهائي. لهذا القرار أكثر من جانب، إذ من المعروف أن أغلبية أعضاء البرلمان من الحزبين الكبيرين «المحافظين» و«العمال» كانوا ضد الانسحاب من الاتحاد، إلا أن موقفهم الحالي بالتصويت مع تفعيل المادة 50 يضع مصداقيتهم على المحك ويخلق تعقيدات جديدة محلياً وخارجياً. محلياً، هناك أكثر من ثلاثة ملايين أوروبي يعملون في المملكة المتحدة، إذ من غير المعروف كيف ستتم معاملتهم ضمن القوانين الجديدة باعتبارهم وافدين لا يتمتعون بنفس الامتيازات السابقة، هذا عدا البريطانيين العاملين في بلدان الاتحاد، وبالأخص في البنوك والمؤسسات المالية. أما خارجياً، فإن الحدود المفتوحة بين أيرلندا الشمالية التي هي جزء من المملكة المتحدة وأيرلندا الجنوبية العضو في الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن تبقى على حالها، خصوصاً أن بريطانيا تنوي، كما يتضح من «الكتاب الأبيض»، الذي نشرته الأسبوع الماضي الخروج من السوق الموحد. لذلك يبدو أن الجانب الاقتصادي أثر بقوة في قرار المحكمة العليا إلى جانب الجوانب القانونية التي استندت إليها بالتأكيد، فالجنيه الاسترليني انخفض بصورة كبيرة، كما أن العديد من الشركات الكبرى التي تتخذ من الجزر البريطانية مقراً رئيساً لها بدأت عملية البحث عن بديل، حيث رحبت كل من باريس وفيينا وبروكسل بقدوم هذه الشركات وتوفير كل التسهيلات لها. هذا يعني فقدان عشرات الآلاف من الوظائف، وبالتالي ازدياد معدلات البطالة، علماً بأن هناك جوانب تجارية مهمة، فنسبة كبيرة تتجاوز 60% من تجارة المملكة المتحدة هي مع شركائها الأوروبيين والذين لمحوا أكثر من مرة إلى أنه لا توجد ضمانات لبقائها ضمن منطقة التجارة الحرة الأوروبية بعد خروجها من الاتحاد. ذلك يعني البحث عن أسواق بديلة، وهو ما تسعى إليه رئيسة الوزراء من خلال تنمية الشراكة مع دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة الأميركية والهند. هل يتحمل الاقتصاد البريطاني كل هذه الهزات في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية والمتأزمة، ربما هذا ما دفع بأغلبية الجهاز القضائي للمحكمة العليا إلى اتخاذ قرار طرح تفعيل عملية الخروج على البرلمان، خصوصاً أن الأشهر الستة الماضية، أي منذ التصويت بنعم لصالح الخروج بينت الكثير من جوانب القصور والتسرع في اتخاذ هذا القرار التاريخي. للأسف هذا يحدث عندما تخول الشارع اتخاذ مثل هذه القرارات ذات الجوانب الفنية الكثيرة، والتي لا يفهمها معظم الناس، كما أن استغلال الأحزاب والمنظمات الشعبوية لحالة المزاج العام واللعب على المشاعر القومية يساهم في اتخاذ مثل هذه القرارات بعواطف ليس لها علاقة بالواقع. ولكن ماذا بشأن الخسائر الكبيرة التي تكبدها الاقتصاد البريطاني والكثير من المستثمرين في السوق المحلي هناك، وبالأخص بسبب انخفاض العملة، في الوقت الذي حقق فيه آخرون مكاسب كبيرة بفضل المضاربات المحمومة التي تلت عملية التصويت، علماً بأن بقاء الوضع في المنطقة الرمادية بشأن ضمان تصويت البرلمان على التقرير النهائي للحكومة بعد تفعيل المادة 50 ومفاوضاتها مع المفوضية الأوروبية التي يبدو أنها ستكون شاقة بسبب مواقف الاتحاد الصارمة ستعني أيضاً تقلبات جديدة ستحمل معها خسائر كبيرة لبعض المستثمرين ومكاسب كبيرة لمستثمرين آخرين، بحيث تبدو عملية الخروج منذ الاستفتاء وحتى الآن، كأنها لعبة روليت في ليلة شتائية طويلة وباردة.