لم يعد ثمة شك في أن قضية الاستيطان التي استفحلت على نحو واضح منذ إبرام اتفاقية أوسلو 1993 تمر الآن بمنعطف خطير يشير إلى نقلة نوعية في النشاط الاستيطاني الإسرائيلي، من شأنها أن تقضي عملياً ونهائياً على آفاق إنشاء دولة فلسطينية. وقد ترتب هذا المنعطف على ثلاثة عوامل، أولها الطبيعة التوسعية للمشروع الصهيوني، وثانيها ضعف الأداء الفلسطيني نتيجة الانقسام وغياب الرؤية وفقدان الظهير العربي بسبب استنزاف الدول العربية في مكافحة الإرهاب واستشراء الصراعات الداخلية، وثالثها الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل. وعندما تحدث ترامب في حملته الانتخابية عن نيته نقل سفارة بلاده إلى القدس، وعن مشروعية الاستيطان كان ذلك بمثابة ضوء أخضر لإسرائيل لمزيد من الاندفاع في الأنشطة الاستيطانية إلى درجة موافقة «الكنيست» على تشريع يسمح بالاستيطان على أراضي الملكية الخاصة للفلسطينيين. وقد أشرتُ في مقالة الأسبوع الماضي إلى أنه على العكس من اندفاع ترامب في تنفيذ بعض أفكاره التي طرحها في حملته الانتخابية فقد بدا مترويّاً في شأن مسألة نقل السفارة ودعم المزيد من الاستيطان. وفي الأيام الأخيرة اتضح مزيد من المؤشرات على هذا التروي، بل وبدء الإشارة إلى احتمالات تحرك أميركي ما في مسألة التسوية بصفة عامة. فقد نشرت صحيفة «يسرائيل هيوم» يوم الجمعة الماضي مقابلة مع الرئيس الأميركي ذكر فيها بخصوص نقل السفارة أنه يدرس الموضوع «ولنرى ما سيحدث». وأضاف: «هذا ليس قراراً سهلاً وأنا أفكر فيه جيداً». أما بخصوص الاستيطان فقد زاد بشأنه القول: «الأرض المتبقية محدودة وفي كل مرة يتم استخدام الأرض للمستوطنات، تنقص الأرض المتبقية وأعتقد أن توسيع المستوطنات ليس أمراً جيداً للسلام». وحتى الآن فإن أقصى ما يمكن استنتاجه من هذه التصريحات هو أن ترامب قد لا يعطي ضوءاً أخضر لمزيد من الاستيطان، ولكنه بالتأكيد لن يمس ما هو قائم منه وادعاء إسرائيل بشرعية المستوطنات القائمة. ويجب أن يكون هذا واضحاً أمام الفلسطينيين والعرب كي نعرف جميعاً ما يتعين علينا فعله لتجنب هزيمة منكرة في معركة تفكيك المستوطنات. وقد ذكر بعض التقارير أن هذا التغير - المحدود للغاية حتى الآن- يعود إلى عاملين أحدهما أميركي والثاني عربي. أما العامل الأول فيشير إلى تأثير محتمل لوزيري خارجية ودفاع ترامب عليه، بينما يتعلق العامل الثاني بالاتصالات العربية مع ترامب، فمن المعروف أنه اتصل هاتفياً بعدد من القادة العرب، كما أن الملك عبدالله الثاني ملك الأردن قد التقاه فضلًا عن زيارة أخرى مبرمجة له وللرئيس المصري، ومن المؤكد عدد من القادة الخليجيين، بل إن الحديث قد عاد عن آلية جديدة يفكر فيها ترامب لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين تستند إلى معادلة جديدة للمستوطنات تستقطب الجانب العربي. وكل هذا حتى الآن يمثل تطورات يشوبها الغموض من جانب، وليس بمقدورنا أن نتصور خروجها على مألوف السياسة الأميركية من جانب آخر. والأمر الوحيد المؤكد هو أن ترامب قد تراجع في تصريحاته، ويدفعنا هذا إلى التفكير في ضرورة ممارسة مزيد من الجهود في ساحة التأثير على القرار الأميركي. ولا يمكننا بطبيعة الحال أن نتحدث عن تأثير عربي على القرار الأميركي وحال الفلسطينيين على ما هو عليه من انقسام بين الفصائل الفلسطينية الرئيسة، بل وداخل كل فصيل في بعض الأحيان. وقد جرت محاولات عديدة قبل ذلك لوضع حد لهذا التشرذم لم تسفر عن شيء حتى الآن، وآن أوان كتابة نهاية هذه القصة السخيفة والمدمرة لما تبقى من قضية فلسطين. وبعد إنهاء الانقسام يأتي الحديث عن ضرورة التوصل إلى استراتيجية للنضال الفلسطيني من أجل استعادة الحقوق. ومع أن الكفاح المسلح مشروع لمقاومة الاحتلال فإن هذه الاستراتيجية يجب أن تُبنى على النضال المدني الحقيقي حتى تتجنب شبهة الإرهاب من إسرائيل وأنصارها، وعلى الإنهاك الدبلوماسي لإسرائيل في المحافل الدولية كافة، غير أن ضمان الانتصار في معركة استرداد الحقوق لن يكون ممكناً دون ظهير عربي، وهذه قصة أخرى.