في فرنسا يتواصل مسار تدمير الطبقة السياسية في أفق الانتخابات الرئاسية في نهاية أبريل القادم، بانهيار حظوظ مرشح اليمين «فرانسوا فيون» الذي كان إلى عهد قريب الفائز المتوقع بالسباق الرئاسي قبل أن تكشف الصحافة توظيفه لزوجته مساعدةً برلمانيةً وهميةً في ما أصبح يعرف بـ«بينالوب غيت». انهيار «فيون» في البورصة الانتخابية يأتي بعد هزيمة الرئيس السابق «نيكولا ساركوزي» في الانتخابات التمهيدية لأحزاب اليمين إثر فضائح مالية لا تزال موضع متابعات قضائية، وهزيمة الوزير الأول الأسبق «آلان جوبيه» الذي كان يعد أبرز وجوه السياسة الفرنسية، ومعهما الرئيس الاشتراكي الحالي «فرانسوا أولاند» الذي آثر أن لا يتقدم للانتخابات لضعف شعبيته في الشارع، وكذا رئيس حكومته «مانيول فالس» الذي هزم في تصفيات اليسار. في الولايات المتحدة حدث المسار نفسه بهزيمة رموز الحزب الجمهوري أمام رجل الأعمال الغريب على الحقل السياسي (الرئيس الحالي ترامب)، ثم هزيمة السياسية المخضرمة وسيدة الولايات المتحدة الأولى السابقة «هيلاري كلينتون» التي عرفت نفس الحملة التدميرية إعلامياً وقضائياً. في كل هذه الحالات يبدو من الجلي أن الملفات الأخلاقية كانت هي السبب المباشر لتدمير الوجوه السياسية، فيما تكفل الإعلام بالدور المحوري في توجيه الرأي العام والتأثير عليه، إلى حد أن الفيلسوفة البلجيكية «شانتال موف» اعتبرت أن ما يجري حالياً هو في حقيقته انهيار كلي لحدود السياسة من حيث هي ممارسة لها أصولها وقواعدها تحت ضغط السجل الأخلاقي. والمعروف أن أحد المفاتيح الأساسية للحداثة هو الفصل بين الأخلاق والسياسة، باعتبارهما يصدران عن نمطين من المعيارية، هما حسب ثنائية «ماكس فيبر» الشهيرة «أخلاق القناعة» التي تحكم سلوك الأفراد في ما بينهم و«أخلاق المسؤولية» التي بجب أن يتحلى بها رجل السياسة وأساسها المصلحة العمومية. كثير من كبار رجالات الدولة في التاريخ عرفوا بزلات أخلاقية شخصية لم تقدح في تقويمهم السياسي، وكثير من الحكام المتميزين في السلوك الأخلاقي الشخصي فشلوا في العمل السياسي، وتلك هي القاعدة التي صاغها «ماكيافيلي» بقوله إن القديسين والحكماء لم يصنعوا للعبة الحكم. الواقع أن ما تبدل في المعادلة السياسية اليوم هو ما فرضته الثورة الاتصالية الجديدة من انكشاف العمل السياسي وحقل الحكم الذي لم تعد فيه أسرار ولا غرابة، بل أصبح معروضاً على الناس في نوع من «التعري» الدائم الذي نزع عن السياسة ألقها الرمزي وسحرها الكارزمي، فأصبح الساسة موضع اتهام دائم وملاحقة مستمرة. لم تعد الثقة هي مقوم الديمقراطيات الجديدة، بل ما نعيشه حالياً هو الانتقال إلى ديمقراطيات التشكك والتوجس التي هي المعبر الطبيعي للوجوه الشعبوية المعادية للنخب، المدعية وقوفها مع الجماهير العريضة ضد الساسة «الفاسدين». «مارك زوكربرغ» رئيس شبكة «فيسبوك» دافع عن الإعلام الانكشافي في تتبعه لحياة الساسة، بقوله «إن المعيار الاجتماعي في عصرنا هو التكشف»، بينما اعتبر «لاري بدج»، رئيس شبكة «غوغل»، أن إمبراطوريته الافتراضية ستنتهي أخيراً إلى تسيير كامل المعارف البشرية بما سيفرض على مختلف دول العالم الاستناد إليها والاستعانة بها. في هذا العالم الذي لا أسرار فيه، حيث انمحت قسمة ثنائية العام والخاص التي قامت عليها الحداثة السياسية، لم يعد لرجل السياسة حرمة ولا فاعلية، بل أصبح عاجزاً عن القيام بأي عمل تغييري جذري أمام ضغط الإعلام وتحكم القضاء ونقمة الرأي العام الذي فقد كل الوسائط مع النخب السياسية. في سنة 1957، كتب الفيلسوف الفرنسي «بول ريكور» مقالة شهيرة حول «مفارقة السياسة»، ملخصها التعارض الداخلي بين عظمة السياسة من حيث سمتها العقلانية كمجال لترابط البشر وتضامنهم، وبين ما تفضي إليه من تجاوزات تصل أحياناً حد فظائع الاستبداد والظلم. واعتبر ريكور أن السياسة من هذا المنظور تتسم بالهشاشة، فهي ضرورية للمجتمعات المنظمة، كونها تمدها بالإطار المؤسسي الذي لا يمكن للأخلاق أن توفره حتى لو كانت تفضي أحياناً إلى أقسى أنواع الظلم، بيد أن محاولة نفيها من منظور أخلاقي إطلاقي تؤول دوماً إلى ظلم أقسى وأفظع.