تحكم السمات العامة للتفكير العلمي أي عملية ذهنية وتجريبية سليمة، تسير في خط مستقيم، هادفة إلى إيجاد حلول للمشكلات والمعضلات التي تواجهنا. وتلك السمات تحتل من التفكير ما تحتله مواد البناء من البناية، فعليها تنتصب الأعمدة وتقوم الجدران والأسقف والأرضيات، لكننا نمتلك الحرية كاملة في الشكل الذي تتخذه البناية، من حيث المنظر الخارجي وعدد الطوابق، ومساحة الشقق السكنية، والهيئة الداخلية التي ستكون عليها، والتي يمكن أن تكون فاخرة لأصحاب الدخول المرتفعة، وبسيطة لأصحاب الدخول المنخفضة. والمثل السابق يعني أننا نكون مخيرين بعد امتلاك مواد البناء بين طريقتين، الأولى هي أن نبدع الشكل المعماري الملائم لبيئتنا وظروفنا المادية والمعنوية، والثانية هي أن نقوم بإدخال تعديلات على رسوم هندسية معمارية متواجدة ومجربة في أماكن أخرى من العالم، حتى تتحقق هذه الملاءمة. وفي ظني فإن البداية تكون بإبداع تصور نظري لمسار تفكيرنا، بما لا يقفز على الواقع ولا يستسلم لشروطه في آن، بمعنى أن يرمي التمعن في الواقع إلى فهمه وتطويره، لا تبريره والارتكان إليه. وفي وقت مبكر نبه محمود أمين العالم إلى الهوة الكبيرة بين قدرتنا على التنظير وبين احتياجات الواقع، عبر انتقاده إخفاق ثورة 1952 المصرية في القضاء على التشتت الفكري الذي كان يسبقها، وفي إبداع نظرية ثورية متكاملة، وهنا يقول: «تخلفت الدراسات الإنسانية في جامعاتنا عن احتياجاتنا الاجتماعية تخلفاً بشعاً، وجمدت عند نظريات وفلسفات عتيقة أو متخلفة، بل فقدت سمتها العلمية الواجبة، وفقدت بهذا فعاليتها الواجبة، وجفت روح البحث في مجال العلوم الإنسانية خاصة، وجفت معها روح النقد الموضوعي، ولم تنضج النظرة العلمية الشاملة لحركة الحياة من حولنا». ويطلق جلال أمين على هذه الحال مصطلح «التبعية الفكرية»، ويعزوها إلى التبعية في مختلف جوانب حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويقول: «كيف يمكن لمجتمع أن يكون مبدعاً وخلاقاً بعد أن بلغ هذا الحد من فقدان الثقة في نفسه، ومن تسليم مقاليد الأمر إلى الأجنبي، ومن الانبهار بلا تحفظ بمنجزات الغرب التكنولوجية والفكرية على السواء، ومن التسليم بتفوق العقل الغربي والتنظيم الاجتماعي والسياسي الغربي، ومن التسليم باستحالة التنمية دون الاعتماد على رأس المال الغربي... إن أقصى ما يمكن أن ننتظره من علماء الاجتماع لدينا، في مناخ اجتماعي هذه سماته، وهو إنتاج دراسات تطبيقية قد يتسم بعضها بالدقة والاستقصاء، ودراسات نظرية قد يتسم بعضها بالوضوح والاتساق، ولكنها جميعاً تفتقر إلى الابتكار الحقيقي، سواء تعلق هذا الابتكار باتباع منهج جديد في البحث، أو بإثارة الشك في بعض المسلّمات، أو بتقديم تفسير جديد لظاهرة اجتماعية معقدة». وهناك تصوران معلنان لطريقة التفكير، الأول هو التفكير في خط مستقيم. ويوجد من يرى أن مثل هذا اللون من التفكير يخص الغرب، ويصبغ مسيرته نحو التحديث والحداثة، وأن هناك لوناً آخر يخص المجتمعات الشرقية وهو «التفكير الدائري». وهنا ينسب «ريتشارد إي. نيسبت» المتخصص في علم نفس المعرفة إلى تلميذ له من الصين قوله: «الفارق بيني وبينك أنني أرى العالم دائرة، وأنت تراه خطاً مستقيماً... يؤمن الصينيون بالتغير المطرد أبداً، لكن مع إيمان بأن الأشياء دائماً وأبداً تتحرك مرتدة إلى حالة ما كانت في البدء. إنهم يولون اهتمامهم لنطاق واسع من الأحداث، يبحثون عن العلاقات بين الأشياء، ويظنون أنه لا سبيل أمامهم إلى فهم الجزء من دون فهم الكل. هذا بينما يعيش الغربيون في عالم أبسط حالاً وأقل خضوعاً للحتمية. إنهم يركزون انتباههم على موضوعات أو أناس لهم وجودهم الفردي البارز دون الصورة الأكبر، ويظنون أن في وسعهم التحكم في الأحداث، لأنهم يعرفون القواعد والقوانين الحاكمة لسلوك الأشياء». ويقترح الناقد والمفكر الدكتور جابر عصفور أن يأخذ تفكيرنا وسيرنا نحو التحديث والحداثة المتوائمة مع ظروفنا طريق الثعبان في السير، حيث يتلوى بجسده يساراً ويميناً، ولكنه في كل الأحوال يندفع إلى الأمام. وهناك تصور يبدو أكثر واقعية وملاءمة لأوضاعنا، وهو في نظري يشبه الشكل الحلزوني المشدود، الذي تتابع حلقاته، تتقدم الحلقة منها ثم تعود إلى أسفل، ولكنها تتسع وتكبر كلما اتجهنا إلى أعلى، لتصبح هذه العودة عملية تمسك بالجذور الراسخة من الجوانب الإيجابية في قديمنا، الذي لا يمكن أن يموت كله، وعليها نؤسس طريقة عصرية في التفكير، تستفيد من عطاء الآخرين أو حكمتهم الأثيرة.